من المؤكد أن إسرائيل تعانى فراغاً سياسياً من بعد انتخابات أبريل 2019- لا يزال- من المرجح أن يمتد إلى موعد إجراء انتخابات ثالثة مطلع العام 2020، حال عجزت مجدداً عن تشكيل الحكومة بعد انتخابات سبتمبر الأخيرة.. إذ تحول بينها اختلاف الرؤى المستقبلية داخل الأوساط الحزبية، وبين الرأى العام، ما يمثل ظاهرة سياسية غير مسبوقة منذ أن كان زرع الدولة فى العام 1948.. وبدعم أساسى آنئذ من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأميركية.. اللتين تسابقتا للاعتراف الأممى بها فى الساعات الأولى من إعلانها، ما بين رغبة موسكو لأن تكون إسرائيل قاعدة متقدمة لها ضمن منظومتها الاشتراكية فى الشرق الأوسط، سبق أن أمدتها لذلك بالسلاح والمهاجرين.. وفى إطار الدور المتميز الذى كان للجالية اليهودية فى الثورة البلشفية 1917، ذلك فيما سارعت الولايات المتحدة إلى تقديم الدعم الدبلوماسى والتدفقات المالية فى إطار الصهيونية الأميركية.. لقطع الطريق على التطويع الأيديولوجى لموسكو بشأن إسرائيل- التى سرعان ما انحازت بدورها إلى الجانب الأميركى، ما دعا الشيوعيين السوفيت لجمرها بأنها قرة قوز (أراجوز) للإمبريالية الأميركية وفى السياق الغربى، إلا أن تنقل إسرائيل بين الدول الإقليمية أو العالمية الأكثر انكشارية لمن يكن أمراً غير معتاد فى سبيل تحقيق الغايات العليا للمشروع الصهيونى، ذلك قبل أن تنحسر عنه لأسباب مختلفة.. باستثناء الولايات المتحدة وفى معيتها «الكنز الإسرائيلى الاستراتيجي» وفقاً لتعبير الرئيس الأميركى «ريجان» 1983، إلى أن أطلقت الإدارة الأميركية الحالية فى 2018 ما تسمى «صفقة القرن» بشأن التسوية النهائية للصراع العربى- الإسرائيلى، سواء فى شقها السياسى أو بالنسبة لمعطياتها الاقتصادية.. من أهم دلالاتها مشروع «نيوم» الإلكترونى التى تموله السعودية، بالترليونات على الحدود بينها وبين مصر والأردن وإسرائيل، إذ ربما تبدو السعودية فى ضوء التطورات الحالية والمحتملة.. هى المرشحة (ربما مع دول عربية أخرى) من جانب إسرائيل.. لتحل محل تحالفاتها الإقليمية القديمة (الانكشارية) مع كل من إيران «الفارسية».. وتركيا «الطورانية»، ذلك من بعد تحولهما من حليف لإسرائيل فى مواجهة العرب.. إلى أقرب ما يكونا إلى خصمين متنافسين مع الدولة العبرية على مركز الصدارة فى الشرق الأوسط، الأمر الذى قد يشير لاحتمالية ما يسمى ربما بالالتحام العربى- الإسرائيلى، وخاصة لما يعترى علاقات تل أبيب المرتبكة مع القوى الكبرى.. التى تشهد متغيرات داخلية وخارجية تجعل من استمرار الرهان الإسرائيلى بعيد المدى عليها. بمثابة مغامرة محفوفة بالغموض، بأقله إلى أن تنجلى السجالات بشأن تشكيل التنظيم العالمى المرتقب الجديد، ذلك ما بين القرار الأميركى بالانسحاب التدريجى، لأسبابها، من الشرق الأوسط، إلى دخول روسيا بثقلها العسكرى والسياسى كحقيقة ثابتة فى شرق البحر المتوسط، وبالتحالف مع كل من إيران وسوريا وغيرهما، أو بالنسبة للصين التى يتسبب تعاون إسرائيل معها إلى إثارة قلق أميركى شديد.. إلخ.
إلى ذلك، تبدو إسرائيل- راهناً- أقرب إلى مفترق طرق غير مسبوق، إذ حينما هى منغمسة لآذانها فى أحلام الدولة الصهيونية الكبرى، تتملكها من ناحية أخرى نزعات السيكوباتية والفزع بالنسبة لأوضاعها الوجودية والأمنية الهشة، ما ينعكس على قرارها بالنسبة لمقتضيات التسوية النهائية- خاصة والعرب فى أضعف أوضاعهم السياسية والتنظيمية، لتتمزق من ثم رؤاها السياسية بين الشيء ونقيضه.. فى الوقت الذى تعانى فيه من فراغ حكومى طوال العام -2019 لا يزال – يفاقمه التأرجح بين الفساد (..) والفشل، وبين الطموح العنصرى والتطرف القاصر، وحيث من أبرز مظاهر الشيزوفرنيا الإسرائيلية المستحدثة.. تلك الخلافات بين «حزب الجنرالات» المعلن تشكيله حديثا مطلع 2019.. وبين قوى اليمين الإسرائيلى التى تعتبره بمثابة «انقلاب عسكرى» على حزب الليكود المخضرم والمتربع على سدة الحكم منذ 1977، إلا قليلاً، حيث صبغ خلالها الرأى العام بالمزيد من الأساطير التوراتية والنزعات العنصرية، ذلك فيما قد يدير حزب الجنرالات سياسة مغايرة عن حزب الليكود، من المرجح أن ترتكز فى العمل على ما سبق طرحه فى السبعينيات حول ما يسمى «حل وسط إقليمي»، ربما لا يتعارض مع «حل الدولتين»، ما قد يسمح لإسرائيل عندئذ للتفرغ إلى التحدى الإيرانى بشكل أو آخر لا يتعارض مع علاقاتها سواء مع موسكو أو واشنطن أو إزاء التحالفات الإقليمية، أو فى كيفية التعاطى مع ما تسمى «صفقة القرن»، ذلك دون أن يتخلى «حزب الجنرالات» عن إثبات قدرته على الحزم- ولو بالحرب مجدداً ضد الفلسطينيين الرافضين للمبادرة الأميركية أو سواء الرافضين لمبادرات مطروحة من جانب الحزب أو من جانب السلطة الفلسطينية أو عن دبلوماسيين أردنيين ومصريين وعرب، وآخرين، ذلك لما يعتبره ليبراليون إسرائيليون «انقلاباً أبيض» قرره الشعب فى صناديق الاقتراع، سوف يحدث منذئذ- بحسبهم- تغييراً دراماتيكياً لمكانة إسرائيل فى المنطقة والعالم، إذ ربما يتيح توظيف الفرصة التاريخية السانحة لتحقيق تسوية سياسية يمكنها عبور حواجز السلام الزجاجية، أو ن تبقى تلك الحواجز «صماء» عن الاستجابة لتسويات سلمية إلى أمد غير منظور.