“إدوارد” صبى أوكرانى ذو 12 عامًا، من عباقرة الشطرنج لعبًا وتخطيطًا وفوزًا! قلب حياته إلى رقعة شطرنج واستبدل أسرته وأصدقائه ومدرسته بأحجار شطرنج! انخرط فى نادى الشطرنج بأوديسا، تابع كتب الخطط والإستراتيجيات وفيديوهات المعلمين، راسل الاتحاد الدولى للشطرنج (FIDE)، لجنة الشطرنج الأوليمبية الدولية! يعلم اللعبة للصغار والكبار على موقعه بالإنترنت، أصبح الشطرنج هوسه الذى تابع منه الأخبار فى التلفزيون، صراعات والديه، مؤامرات رفاقه فى المدرسة! طبّق القواعد على المشاعر الإنسانية، وكان “أكل” قطعة = إزاحة لموقف أو شخص من حياته أو تفكيره! أما موت الملك.. فتحدٍ لدور جديد!
هوس “إد” جعله يخترع أشياء افتراضية؟ فجعل رقعة الشطرنج 72 مربعًا بدلًا من 64 ! أضاف قطعة “مستشار” إلى قطع الملك، ملكة، فيل، حصان، طابية، وبيدق! بدّل واستحدث طرقًا جديدة للنقلات! رفض ضعف الملك رغم كونه ملكًا! ومنحه حقوقًا فى الهجوم والحركة! كذلك رفض مصير البيادق كشهداء مجَّانيِّين وجعل لهم قرارًا، وخلق دورًا وإستراتيجيات “للمستشار” لحمايتهم ونقلات مقننة للخداع! طوّر رقعة خاصة به وجعل من نفسه المتحدى الوحيد ليمتِّن القواعد الجديدة! وبعد زخم من المحاولات الفاشلة والتعارض مع القواعد الأصلية، وصلابة كل كتب قواعد اللعبة ضد أى تغييرات، نجح إدوارد فى بلْورة رقعة ذات 72 مربعًا و7 قطع ونقلات جديدة! ليستحدث خططًا مبتكرة خارج أُطر الكتب والبطولات! لم يكتف “إد” بهذا الإنجاز، وخرج برقعته للشارع يطبقها على مجتمعه، ذويه، مدرسته، أخبار الأحداث العالمية، واكتشف – بلعبته الجديدة – رغم صغر سنه جدًا، زوايا مخفية بين روسيا وأوكرانيا! أحداث غزة، مشاهد التلفاز، علاقة جدته باضطهاده نفسيا، إلخ! أتاحت له المربعات والقطعة المضافة أبعادًا نفسية وفكرية وعملية، أفهمته مصالح وعلاقات وتوقعات وخبايا وزوايا وصراعات ومؤامرات، جعلته يفك تعقيدات من حوله، لتبدأ أنفاسه فى تنسم الحرية تحت انفجارات وتهديدات أوديسا وانهيار كل ما يعرفه! تحللت صراعاته مع رفاقه، اختفى اضطهاد جدته، وجدت أمه مصالح جديدة مع والده تتغلب على صراعهما، هزم تنمر مدرِّسته العنيدة بخطة من المستشار وقدمها أضحية لمديرة المدرسة إلخ.
ذات صباح حمل “إد” رقعته وقطعه وأدلة فعاليتها، ليبدأ رحلته فى تغيير قواعد اللعبة، مع رئيس نادى الشطرنج بأوديسا! فوجئ الشيخ المحنك (بشارة الرئاسة)، بالصبى ذى الرقعة (هكذا أصبح لقب “إد” لاحقًا) يدخل عليه بمؤامرة متكاملة لهدم عرش الشطرنج! لم ينزعج الشيخ الرئيس أو يجادل “إد”! ولكنه قال ببساطة (يا بني؛ الشطرنج الهندى لعبة الملوك لم يعدل فيه منذ القرن السادس! والأساسيات الرئيسية للقواعد لم تتغير كثيرًا منذ القرن السادس عشر تقريبًا، ومن يلعب يحترم القواعد لا يخرقها، وقواعده بقوانين محسومة من الاتحاد الدولى للشطرنج (FIDE) ولجنة الشطرنج الأوليمبية الدولية. أنا معجب بمحاولاتك ومشفق من عبثيتها، ولكنى أعترف أنى أمام لاعب ماهر، ليس أكثر من ذلك).
لم ييأس “إد”، لأن خططه الجديدة من الـ 72 مربعًا، أظهرت له هذه المقاومة وخطّط لحلها فعلا! وأعطى الإشارة للمستشار والفيل للتحرك! وبادر الشيخ الرئيس معقبا (أتفهم كل ما قلت سيدي! ولكنك تتعامل مع الشطرنج كلعبة ملوك وليس لعبة حياة! هل يمكنك إخبارى لماذا لم يجتَح بوتين بلادنا حتى الآن، رغم أنه يستطيع؟ لماذا لا تحسم مصر موقف غزة؟ لماذا تتوهج عنصرية فرنسا وتتآكل أمريكا؟ متى تتوجه روسيا لابتلاع أوروبا؟ لماذا تركك النائب إيجور تفوز فى الانتخابات الماضية؟ لماذا لا يدعم المصريون رفع حذاء شامبليون من رأس ملكهم؟ كيف ستكسب عضويتك فى (FIDE)؟ أنا لم ألغ القواعد ولم أحرّفها، ولكنى استحدثت عمقا جديدا لطرح خطط جديدة بأدوار جديدة، تسمح بنتائج أفضل وفرص فوز أكثر عدالة وألمعية).
توهج الشيخ غضبًا ولمعت عيناه حقدًا ممزوجًا بدهشة من مساخر الصبى ذى الرقعة! وقام بتكلف وطبّق الرقعة الجديدة وأعادها لإدوارد مع قطعه بهدوء قائلا (أغفر لك يا بُنى أحلامك وأسئلتك! ولا عجب أن تصفح الإنترنت والألعاب والتلفاز أفسدا عقلك تماما، لأنه لو لديك إجابات لوجب قتلك فورا! ومع ذلك دعنى ألخص لك استحالة تغيير قواعد اللعبة – أى لعبة -! فهناك قوانين وقواعد اللعبة، والمركزية السياسية فى أى لعبة بمجالس إدارتها، الحريصة لغياب آليات فعالة للمشاركة الشعبية فى عملية صنع القرار/ هيمنة المصالح والضغوط الخاصة فى صنع السياسات وغياب التوازن بين المصالح الفردية ومصلحة اللعبة ذاتها والمنتفعين منها وليس مجرد اللاعبين لها/ سجن الجميع فى القواعد بدون وعى إمكانية تغييرها، سواء لضعف الوعى والثقافة بآليات مشاركة اللاعبين والمنتفعين والحكام بمنظمى اللعبة أو محركيها، أو لغياب الشفافية والمعلومات عن إبعاد اللعبة بالكامل/ ناهيك عن كهنة البيروقراطية واستحالة الوصول لهم/ انتفاع الجميع من قواعد اللعبة كما هى وتخطيط حياتهم وتوقعاتهم وهجومهم ودفاعهم كالقواعد. فماذا تريد أنت يا بُني؟ هدم كل ذلك؟ نقض كل القواعد والخطط والمسابقات وأحلام الفوز ورهانات التوقعات؟ ماذا تريد يا صغيرى البائس؟ هل تحلم بالمستحيل، وأنت مجرد لاعب محظوظ أُتيح له وقت وخيال وعُقد نفسية لتصور تغيير قواعد الشطرنج؟ أنا لن أكلف نفسى عبث مناقشة إضافاتك أو خططك أو أحلامك، فهذا خارج قواعد اللعبة وخارج صفتي! ومجرد مناقشتى لك الآن خيانة للعبة، ولكل قناعاتى فيما أقوم به! أنا حائط الصد الأول – والأخير – لفسادك الفكرى لتغيير النظام، ولو للأحسن! هذه قواعد اللعبة يا صغيرى وستقدر كلماتى عندما تعى خطورة لعبتك.. ولو مفيدة!).
ابتسم “إد” من أعماقه! وزاد إيمانه بصحة لعبته وفوزه فى خط الدفاع الأول! كان مكسبه الرئيسى هو معرفته بتحديات تغيير وتشكيل قواعد اللعب! عاد “إد” متأبطا رقعته وأحجاره، وفى رأسه خطة جديدة بتواطؤ الملك والمستشار مع البيدق الزيتوني؟ وعلى مدار السنوات التالية تلقت بيوت الرئاسة العالمية، خطابات بخط طفولى – موقعة من “الصبى ذو الرقعة” – مرفق بها رقعة شطرنج غريبة و7 قطع وكتيب قواعد جديدة، مع خطط لحسم أزماتهم المتشابكة والمتقاطعة والمتحالفة، ومذيلة بعبارة (ادعموا عالما جديدا للشطرنج)!
* محامى وكاتب مصرى