يمثل البحر الأبيض المتوسط الحصن الرابع «الطبيعى» لمصر شمالاً، بجانب حصونها فى سيناء ووادى حلفا والصحراء الغربية، كما يمثل لها تحدياً إقليمياً غير مسكوت عنه فى شرق وغرب البحر، بوصفها «الوصلة» التى تربط بينهما من موقعها الحاكم، وحيث يتطلع الآخرون من خارج محيطه لمركز نفوذ فى «المياه الدافئة»، إذ يتسابق إليها أساطيل القوى العظمى- ما بين الأسطول السادس الأميركى ونظيره الروسى، على وجه التحديد، وحيث لم يطأ الأخير مياهه إلا فى منتصف الخمسينيات من خلال مصر بادئ الأمر، قبل أن يصبح بجانب نظيره اللدود حقيقة سياسية ثابتة، خاصة من بعد العام 2015، إلا أن الأمر لا يقتصر فحسب على تدخل القوى الأجنبية، إذ إن الدول المتوسطية المشاطئة لضفافه.. لا ينأى بعضها عن خلق التوتر والصدام، لأسبابها، حيث تتنافس كل من فرنسا وإيطاليا على سبيل المثال لملء الفراغ السياسى والأمنى من بعد 2011 فى ليبيا، وظهيرها الصحراوى، خاصة مع اهتمام الاستراتيجية الفرنسية بالدول ما بين الساحل والصحراء، وبالتحديد بالنسبة للدول الفرانكفونية الأفريقية، ناهيك أيضاً عن المنظومة الأوروبية- المغاربية 5+5 على ضفتى غرب البحر، شمالاً وجنوباً، والتى من غير المفهوم الأسباب وراء التقاعس عن تفعيل سبل التعاون بين المجموعتين فى السنوات الأخيرة، إلا ربما لتنوع وتصعيد الاضطرابات السياسية والأمنية لدول المجموعة المغاربية الخمس من ليبيا إلى موريتانيا بلا استثناء، والتى رغم انتظامها من جانب آخر فيما يسمى «الاتحاد المغاربى» الذى تشارك فيه مصر بصفة «مراقب»، كوصلة بين غرب وشرق البحر، فإن اتحادهم لم يحل بين ضعف التنسيق والتعاون فيما بينهم.
إلى ذلك، وفيما تتجه أنظار مصر لمباشرة دورها فى غرب البحر المتوسط دفاعاً عن أمنها القومى، إلا سرعان ما يرتد عنها البصر خاسئاً إلا قليلاً نحو شرق البحر.. الذى يموج بدوره بالصراعات فيما بين أعضائه المحليين، خاصة من الجارات غير العربيات، سواء من تركيا عند الثقب الأسود أقصى الشمال الشرقى للبحر، ومن تحرشاتها العسكرية والأمنية فى سوريا (وليبيا)، وحول حقول الغاز لمصر وقبرص شرق البحر.. إلخ، أو سواء من إسرائيل التى تحتل أراضى من ثلاث دول عربية متوسطية، سوريا- لبنان- فلسطين (قطاع غزة) الذى يشكل موقع الزاوية القائمة مع سيناء شمال شرق البحر، وليس آخراً عن وثبات إيران- الجار الثالث غير العربى، كدولة غير متوسطية- من خلال وكلائها المحليين، فى لبنان وسوريا وغزة، كونهم الشركاء الاستراتيجيين لمصر، حيث أمنهم القومى المشترك فى وضعية اختبار جيوسياسى غير محدود.
إلى هذا السياق من الأهمية العالمية للبحر المتوسط، تقترح فرنسا «ديجول» 1958 تأمين البحر من خلال ما أطلقت عليه «الاتحاد من أجل المتوسط»، ذلك قبل أن يجدد «ساركوزى» فى 2008 الدعوة لبناء الاتحاد يجمع من خلاله 15 دولة متوسطية، إلا أن الاتحاد الأوروبى رأى، لأسبابه، الانضمام إليه لتعزيز التعاون الأورومتوسطى، بإضافة 28 دولة عضواً من الاتحاد الأوروبى، ما يمثل الابن الروحى لـ«عملية برشلونة» 1995، وإذ يعبر انتظام انعقاد منتدياته الإقليمية (الرابع) 10 أكتوبر 2019 عن إرادة سياسية لتفعيله فى إطار من التعاون.. والوضع الجيوسياسى المشترك، لدعم الاستقرار النسبى فى المنطقة، لكن دون أن يحول ذلك عن تجاوزات الجارات المتوسطية غير العربيات فى إثارة القلاقل والاضطرابات والحروب فى العديد من الدول العربية شرق وغرب البحر المتوسط، خاصة أن «الاتحاد» ينأى بنفسه عن الخلافات بين الدول الأعضاء (43 دولة)، إلا أن تصبح من بعد كتلة متعاونة متكاملة.. إذا أرادت أن يكون لها صوت مسموع فى عالم الغد وفى إطار المزيد من التعاون الإقليمى.
قصارى القول، إن الاعتداء التركى بصفة خاصة على سوريا (وغيرها) يشعل العداء فى منطقة البحر المتوسط، سواء بالتوغل بقواتها أو بالإرهاب الذى هو بالأساس تركيّ- بالتنسيق مع قطر – أو بتهديدها أوروبا.. بنزوح المهاجرين مجدداً إليها… إلخ، ذلك فى ظل غض الولايات المتحدة بصرها عن عدوانيتها، إلا أن الرئيس «ترامب» يؤكد أنه لم يعط الموافقة لها بذلك الهجوم على سوريا، فيما عسكريون ينتقدون الانسحاب الأميركى، والكونجرس يصوت على عقوبات ضد أنقرة، ذلك فيما تقوم واشنطن من جانب آخر بالانحياز لمنطق إسرائيل سواء بالموافقة لها على ضم القدس والجولان المحتلتين، أو من خلال مبادرتها «صفقة القرن» بشروط الدولة العبرية، أو سواء بمواجهتها إيران (نحو الممانعة) لحساب حلفائها فى المنطقة، بحيث يفاقم طبيعة السلوك الأميركى مع الجارات غير العربيات حالة اللا استقرار المتوسطية، خاصة مع الحسابات البرجماتية لروسيا، ووهن القرار الأوروبى، بحيث لن يحصل الانعتاق العربى المتوسطى من حصار خصومه شرق وغرب البحر.. إلا بتكوين جبهة عربية- أوروبية مصغرة، تتوسع تدريجياً، تكون قادرة على التصدى لكل ما يهدد استقرار البحر المتوسط، والعمل على ازدهاره بالتعاون فيما بين أطرافها، وقد كان من اللافت- مثالاً- تجربتا كل من مصر والمغرب فى مجال الطاقة والطاقة المتجددة، والشمسية، وتوظيفها استثمارياً، كما بالنسبة لدول مثل مصر وتونس والأردن والمغرب ولبنان.. ممن لديها سياسات واضحة فى الاستثمار لما يسمى «مزيج الطاقة»، ما يعكس الوعى العربى المتوسطى بأهمية مواجهة أولويات التغيير المناخى فى دولهم، وفقاً مع تحذير «الاتحاد من أجل المتوسط» من تداعياته، وهى مشاريع قابلة للتوسع عربياً، وبمساعدة روسية وأوروآسيوية، ومن الاتحاد المتوسطى، ليس فقط لتحجيم عدوانيات وتحرشات الخصوم والتصدى لها، بل أيضاً من أجل ازدهار إقليمى يجعل من حصن مصر الشمالى عبر البحر المتوسط.. بحيرة سلام لا ساحة حروب.