حديث الوعى ونافورة محاكمة بارتولدى!

حديث الوعى ونافورة محاكمة بارتولدى!
محمد بكري

محمد بكري

8:04 ص, الأثنين, 2 يناير 23

لأول مرة منذ 20 سنة، أتواجد خارج صومعتى فى ليلة رأس السنة، فى أحد أكبر مولات التجمع الخامس بالقاهرة، لأشهد بحرا بشريا، متلاطم الأعمار والطبقات والجنسيات والأزياء والتعليقات، من سن سنة إلى 60 تقريبا. حشود رهيبة التدفق والتدافع والتزاحم، بتناغم خفى نسبيا من النظام واحترام الخصوصية وضبط عشوائية التصرفات، لتتجمع شاخصة حول «حدث» النافورة الراقصة. وفجأة قفز لذهنى ملاحظة غريبة! نجحت احتفالية العام الجديد فى «توحيد» الحشد للانفعال بحدث معين، يشتركون فيه بغض النظر عن انتماءاتهم ومشاكلهم وصراعاتهم ومعاناتهم واحتياجاتهم ونجاحهم أو فشلهم. جمعتهم عمومية اللحظة الزمنية ووحدة المكان لمخاطبة قيمة معينة بداخلهم؟ قيمة الأمل فى سنة جديدة بكل ما يحمله الأمل من معانى تمنى التغيير الإيجابى والحلول السحرية لواقعهم الصعب! الوعى المُجمع للحضور على قلب حدث واحد، جعلهم ينتظمون فى دوائر وصفوف لشهود الحدث المؤقت، ليعودوا بانتهائه لسيرتهم الأولى محملين بآمال، علمهم الواقع ألا يتعشموا فيها زيادة! هنا تطورت ملاحظتى لسؤال، هل هناك أحداث أخرى تخاطب القيم، ويمكن أن يتحلق حولها وعى الحشود لتحقيق نتيجة معينة؟

لم توجد بعد ثورتى 25 يناير 6/30 أى أحداث خاطبت قيم المصريين ليتجمعوا حولها فى مشروع إيجابي، يوقظ أو ينعش أو يستعيد وعيهم بقيم الكرامة والحرية والتغيير! وعيهم (المؤقت) الذى تأجج فى التحرير ومحافظات مصر، وأثمر واقعا جديدا نشهد إنجازاته وسلبياته أيضا، ولكن انتهت ليلة الاحتفال بثورة 6/30، ليعود المصريون يصارعون واقعا تكالبت عليه أحداث عالمية، ومؤامرات خارجية، وطابور خامس يحترف الانتقاد، وظروف اقتصادية من إدارات تفتقد الاقتصاد، وإعلام تفنن فى تفتيت وتمييع قيم الوعى المصري.

على مدار عام تقريبا، تبنت مقالاتى مناقشة (الوعى الجمعي) وحاولت فيها بسط التفرقة بين الوعى والتوعية، وأهمية قضية الوعى المصرى للتصدى لمشاكل واقع صعب نحن أهم مكون فيه. وحلمت بوجود وزارة الوعى المصري، كمحاولة لبناء منظومة متكاملة لإنعاش واستعادة الوعى الجمعى المصري، من خلال قيمه المجتمعية والعملية المُشكلة لتصرفات أفراده وتفاعلهم مع سياسات الإدارة. وكانت خاتمة السنة بطرحى رؤية جديدة لقضية (محاكمة الفنان الفرنسى بارتولدي) وصنيعته تمثال شامبليون واضعا حذائه على رأس الملك المصرى تحتمس الثالث، كدعوة لجامعة السوربون الفرنسية لرفع الظلم والمهانة عن الكرامة المصرية، رغم اعتبار فرنسا أن التمثال يعبر عن الروابط الفرنسية المصرية، ورمز للمناخ الثقافي!

تداعت أفكار مقالاتى السابقة، وأنا وسط حشود ليلة رأس السنة! ومدى وعيهم بما أصاب كرامتهم وإباءهم المحشورين تحت حذاء شامبليون منذ 150 سنة؟ وهل يجوز أن تكون (محاكمة بارتولدي) هى النافورة الراقصة التى يتجمع حولها وعى المصريين؟ من أهم أسباب إنعاش وبناء الوعى الجمعي، (وجود قضية) حقيقية تمس العناصر المشتركة بين عموم الشعب. عناصر لا يختلف عليها أو محل مجادلة أو توزن بمكيالين أو تفسيرات متناقضة، عناصر لا تحكمها المصالح، أو المزايدات، أو الانتقاد، أو الحزبية، أو الخلفيات الثقافية والاختلافات الأيدولوجية والدينية. لا يوجد عناصر جامعة أو مشتركة بين أى شعب أو فصيل أقوى من القيم والأخلاق! لا خلاف أو مزايدة أو مجادلة، حول قيمة الكرامة المصرية والاعتزاز بحضارتنا وأهمية نخوتنا ضد ما يجرحهم. القضية الحقيقية هى إنارة (وعينا) بالقضية، كحدث يجتمع فيه عناصر الزمان والمكان والقيم. لتكون الإشكالية فى آليات هذه (الإنارة) وتفعيلها، وتصميمها كحدث النافورة الراقصة ليتحلق حولها وعى المصريين، لاستعادة معانٍ كثيرة نجحت صعوبات الواقع وشياطينه فى إلهائهم عنها، وشرذمة مصالحهم وتوجهاتهم.

إن حدث نافورة (محاكمة بارتولدي)، كمبادرة شعبية لإيقاظ الروح المعنوية للمصريين، يمكن أن يكون حدثا لافتتاح التغيير الإيجابى لـ2023، الذى يخترق دهون وعى المصريين المتخم بالفن الهابط والثقافة الشعثة، والاقتصاد العاصر، والفتاوى الفضولية، والتقسيمات الطاحنة. إن شهودى لتجمع الحشود حول حدث (قيمة الأمل فى عام جديد)، لم يفقدنى الأمل فى تجمعهم حول حدث يقظة إحساسهم بحتمية استعادة كرامتهم من بارتولدى وصنيعته. المشكلة ستكون فى دراسة آليات منظمة ومدروسة لـ(توعية) المصريين بأهمية القضية، توصلا لإشعال فتيل وعيهم بكرامتهم وقيمهم الموضوعية. القيمة الحقيقية لإنارة نافورة محاكمة بارتولدى وتحلّق المصريين حولها، سيجعلهم يشاهدون بموضوعية المسوخ الذين يغرقوهم فى سطحيتهم بأشكالهم وصورهم المختلفة، وأثرها فى تهرأ وعيهم وتشتيته.

تبدو القيمة الحقيقية للإدارة فى إنارة التوعية بأهمية وقيمة محاكمة بارتولدى لانتزاع الكرامة المصرية من دعس الحذاء الشامبليوني، فى خلق قضية حقيقية توازى فى ثقلها ضغوط الواقع، ولكن بمكافئ إيجابى يستدرج وعى المصريين لتصحيح العديد من السلبيات الواقع فيها، لإعادة اكتشاف مواطن قوتهم، بما يسمح للإدارة فى إعادة تصميم الصورة الذهنية لمفهوم (تحيا مصر) بين أهله وعالميا، وتصحيح الخطاب الحكومى أمام وعى شعبي، يمكنه التفاعل تدريجيا بإيجابية، مع إدارة نجحت مساعيها معهم، فى رد كرامتهم.

إن تجربتى مع (نافورة محاكمة بارتولدي)، أقرت فى عزمى أن توعية وإدارة الحشود تحتاج إيمانا من الإدارة بأهمية الحدث وكفالة تنظيمه. فإذا كانت إدارة مول التجمع اهتمت بحدث احتفالية العام الجديد والنافورة الراقصة كرمز غسيل هموم العام الماضي، فإن اهتمام الإدارة بحدث محاكمة بارتولدي، جدير بإتاحتها على سطح الوعى الحكومى والشعبى والإعلامي، بآليات واعية ومدروسة وبعيدة عن العواطف وتحترف فن الصراع الحضاري، كمبادرة شعبية تستنجد بالقيم الموجودة بداخلنا، لخلق موقف مُجمع لتكون محاكمة بارتولدى إرادة شعب.

قديما قيل ثلاثة من المهلكات أصعبهم طول الأمل، إلا لو عزز الأمل إيمان وآليات، هنا يتحول من مُهلك لمُعجز.. وهو ما أتمناه فى 2023.

* محامى وكاتب مصرى