حاكموا بارتولدى.. تبرئة لشامبليون وإنقاذًا لفرنسا!

حاكموا بارتولدى.. تبرئة لشامبليون وإنقاذًا لفرنسا!
محمد بكري

محمد بكري

7:18 ص, الأحد, 4 ديسمبر 22

حلمت كمواطن مصرى عاشق للثقافة الفرنسية، بأن تقوم طواعية إدارة الكوليج دى فرانس المؤسسة التعليمية الفرنسية العريقة (رافعة شعار نعلّم كل شيء)، بالتصدى بمنتهى الوعى والموضوعية والشجاعة الأدبية، لإصدار أول حكم تاريخى فى العالم على “تمثال” وتحكم بإيداعه خزائن النسيان، تعزيزًا لاحترام حقوق الإنسان، ومبادئ التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم! التمثال منحوتة رخامية أبدعها فريدريك بارتولدى، وصمَّم هيكله الإنشائى غوستاف إيفل عام 1875، ويمثل العالِم الفرنسى شامبليون، مستندًا بحذائه الأيسر على رأس الملك المصرى (تحتمس الثالث)!

هى رؤية إنقاذ وليست مجرد حلم! فمصر ولع فرنسى، كما كتب “روبير سوليه”، والشغف الفرنسى بمصر والمصريين حبل ممدود بذاكرة البلدين، لعصور من التعاون فى الاكتشافات والبعثات الدراسية والتجارة البينية والفنون والإبداع المشترك، بزخم من الإنجازات والمشاعر الإيجابية والتقدير المتبادل… التى يناصبها تمثال شامبليون العداء الغامض كثأر قديم، بساحة الكوليج دى فرانس منذ 1878 حتى الآن!

لا علاقة للدولة الفرنسية أو الفرنسيين أو الثقافة الفرنسية، ولا حتى شامبليون نفسه، بأزمة تمثاله الشهير، واتهامهم بالإساءة للكرامة المصرية والمصريين! فإن فرنسا بلد الحرية والمساواة والأخوة، والكوليج دى فرانس “برلمان الفكر”، لا ولن يقبلا إيواء عمل فنى موتور، ثبت تاريخيًّا أن مبدعه لغرض انتقامى شخصى، حادَ عن رسائل الفن فى تهذيب الذوق العام وصقله لدى المتلقى، وترسيخ القيم الإنسانية النبيلة عنده، وتقريب وجهات النظر بين المواطنين وبين شعوب العالم المختلفة.

لا جدال تاريخيًّا أو علميًّا أو ثقافيًّا فى قيمة وإنجاز وتتويج شامبليون لجهود 5 سبقوه فى اكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية، (التى فك طلاسمها قبلهم بـ8 قرون، العالم العربى المسلم أبو بكر أحمد بن على بن قيس بن المختار، المعروف بابن وحشية النبطى، بمخطوطته النادرة «كشف المستهام فى معرفة رموز الأقلام»، وكشف فيها أحرف وأسرار 89 لغة قديمة؛ من بينها اللغة المصرية القديمة الهيروغليفية، وتمتلك المكتبة الوطنية بباريس مخطوطة «ابن وحشية» تحت رقم «1605/131» درسها شامبليون، كذا تمتلكها المكتبة الوطنية بالنمسا برقم «68»).

الأزمة الحقيقية الثابتة تاريخيًّا وفى المراجع، أن “تمثال شامبليون” (انتقام فني) لبارتولدى من الخديو إسماعيل عندما رفض 1869 مشروع تمثاله العملاق “مصر تجلب النور إلى آسيا” – المستوحى من فلاحة مصرية – ليرصع مدخل قناة السويس بعد افتتاحها، بتكلفة 600 ألف$ استكثرها الخديو وقتها، واستبدل به مشروع مهندس فرنسى آخر لعمل فنار بالموقع المقترح للتمثال! حارمًا بذلك بارتولدى من عائد ضخم جدًّا، وتخليد اسمه للأبد عند أعظم قناة بحرية تجارية فى العالم كله!

إن شامبليون وفرنسا بريئان من “خبث فني” قديم، أساء فيه بارتولدى الحق فى التعبير وحرية الرأى، واستخدم فيه الفن لتوريث ضغينته من الخديو إسماعيل ومصر، بحرمان عمله من الخلود، الذى حوّله لاحقًا بتعديلات مناسبة، لتمثال الحرية وأهدته فرنسا لأمريكا بالمئوية الأولى لاستقلالها، وافتتحه الرئيس الأمريكى آنذاك غروفر كليفلاند، 28 أكتوبر 1886 بمقولته المهيبة: “لن ننسى أن الحرية اتخذت لها بيتًا فى هذا المكان”.

إن استمرار إيواء الكوليج دى فرانس بساحتها – وليس فرنسا – لتمثال شامبليون كأيقونة للحقد والانتقام البارتولدى، يناقض ويتعارض مع شعارها (نعلّم كل شيء)، وأهمها تعليم احترام حقوق الإنسان لتعزيز التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم، واعتبار أن إنسانية الفن هى مصدر قوته بتوافقه مع مبادئ حقوق الإنسان، فكلاهما معنيان بمسائل الإنسانية، الهوية، الكرامة، التواصل العاطفى، تغيير الحياة، تطور الإنسان، ورؤى المستقبل.

لا ولن يستطيع جائر أو موتور أو منتقم أن ينال من عظمة الحضارة المصرية أو رموزها، ولن يدعس حذاء المظلوم شامبليون معنى رأس تحتمس الثالث أو أخناتون أو رمسيس الثانى كرأى البعض! ولن تختزل الأواصر المصرية الفرنسية فى حذاء الخبيث بارتولدي! فالموروث التاريخى والثقافى والعلمى والتجارى بين البلدين أكبر وأعمق من (عناد) فنى وليس جدلًا تاريخيًّا حول قيمة وتقييم عمل فنى قابل للمراجعة، بل والمحاكمة الفنية والموضوعية لموضوعه وصانعه، متى ثبتت مخالفته لأهداف ورسائل الفن العالمى. نجح الخبث البارتولدى فى اختزال قمة معانى المهانة والمذلة والخضوع والقهر، بوضعه حذاء المظلوم المستنير شامبليون فوق رأس ملك مصري! سواء كان أعظم قائد عسكرى، أو أول من دعا للوحدانية، أو الجَد الأعظم للمصريين، وجميعهم تُجلّهم فرنسا وتعلمهم الكوليج دى فرانس بقسم المصريات.

الاحتجاج الركيك للبعض باختلاف معنى الحذاء بالثقافة الفرنسية عن العربية، كتبرير لرمزية حركة الحذاء على الرأس، بأن شامبليون تمكّن بقوة من معرفة كل شيء، يزيد الأمر سوءًا بالاستهانة بمشاعر المصريين، المتوافقة مع حقوق الإنسان فى دور الفن التشكيلى بالتوعية بهذه الحقوق، والتعبير عنها كوسيلة مهمة للتواصل والتعبير عن مبادئها، ونشر وتعزيز ثقافتها فى احترام ثقافة وهوية وكرامة الشعوب. (فلا شامبليون أقر أو رفض التمثال، ولا الملك دافع عن وضعيته المُهانة)!

حلمى بموضوعية الكوليج دى فرانس لمحاكمة تمثال شامبليون، إيقافًا لإيوائها المُريب لعمل مُدان فنيًّا وتاريخيًّا، هو دعوة مصرية لإنصاف وإنقاذ العلاقات المصرية الفرنسية من غل فنى قديم، يهدد مستقبل العلاقات ببلد الحرية والإخاء، وتحوله تدريجيًّا لثأر شعبى للكرامة المصرية أمام عناد فرنسى، وصل لتوهم مُضلل بالتدخل فى شئون فرنسية وحرية التعبير بها!

حاكموا بارتولدى لتبرئة شامبليون وإنقاذًا لفرنسا، من غضب شعبى مصرى مُبرَّر، يمكن للكوليج دى فرانس وحدها حسمه بمحاكمة عادلة لعمل فنى، نبا عن أصول الفن كحق من حقوق الإنسان، يجب ممارسته بحرية دون قيود من جهة، ودون الإضرار بالآخرين من جهة أخرى.

أحلم كمصري؛ بعدالة أكاديمية، فنية، اختيارية من الكوليج دى فرانس تعلن فيها:

(إن إدارة الكوليج دى فرانس، برلمان الفكر، تفعيلًا لشعارها وإيمانها بتقريب وجهات النظر بين المواطنين وشعوب العالم المختلفة وتبادل التراث الاجتماعى، وبإسهام الفن فى تهذيب الذوق العام وصقله لدى المتلقى، وبدور الفنانين لأن يكونوا دعاة لقضايا حقوق الإنسان العالمية وللتأثير الإيجابى بالرأى العام بممارستهم الفن كهدف للتنمية المجتمعية، واحترامًا للحضارة المصرية ومشاعر المصريين وتقديرًا للعلاقات المصرية الفرنسية، قد قررت بعد مراجعتها الوثائقية والفنية للأسس التاريخية لتمثال شامبليون للفنان فريدريك أوجست بارتولدى، وتقييم كيفية ارتباط عناصره، لمعرفة فكرته والحالة المزاجية والخلفية التاريخية للفنان والمعانى الكامنة وراء التمثال عند تصميمه، وما خلقه من ردود أفعال ثقافية وتاريخية سلبية بمصر، لا تعبر عن تقدير الكوليج دى فرانس وفرنسا لمصر والمصريين، فقد قررت رفع تمثال شامبليون من موقعه الحالى بساحة الكوليج دى فرانس، وإتلاف نموذج الرأس الفرعونى به وإيداع التمثال بمخازنها، انتصارًا للموضوعية التاريخية والفنية، وتفعيلًا فرنسيًّا صادقًا لاحترام مشاعر الأمة المصرية ودور الفن فى ترجمة حقوق الإنسان).

حاكموا بارتولدى ودعونا نعتز بالكوليج دى فرانس لتعلنها مصر عالميًّا خالدة “لن ننسى أن الموضوعية اتخذت لها بيتًا فى هذا المكان”.

* محامى وكاتب مصرى ‏