جميل بثينة .. جميل بن معمر (15)

رجائى عطية

7:44 ص, الثلاثاء, 21 مايو 19

رجائى عطية

رجائى عطية

7:44 ص, الثلاثاء, 21 مايو 19

مكانته فى الصناعة الشعرية

نشأ جميل ــ فيما يورد الأستاذ العقاد ــ نشأة أدبية صالحة لموطنه وعصره، وتخرج فى مدرسة الشعر كأحسن ما يتخرج الشاعر بالحجاز فى القرن الأول للهجرة، فكان كما جاء فى كتاب الأغانى للأصفهانى «راوية هدبة بن خشرم، وكان هدبة شاعرًا وراوية للحطيئة، وكان الحطيئة شاعرًا راوية لزهير وابنه»، فاجتمعت له الرواية والشعر مسلسلة من أساتذة فحول مشهود لهم بين الرواة والشعراء.

وكان بعض المشهورين بعلم الشعر فى زمنه يفضلونه على الشعراء كافة ويقولون إنه أشعر أهل الإسلام والجاهلية.
وتحدث بذلك شعراء مشهورون مثل «نُصيب» الشاعر، وابن الأزهر الذى قال عنه إنه أشعر أهل الإسلام، فزاد عليه ابن حسان بأنه أشعر أهل الجاهلية أيضًا.
ولعل آراء هؤلاء المتأدبين المشهود لهم بعلم الشعر فى ذلك العصر، قد غلبوا فيه النظر إلى العشق والنسيب على النظر إلى فنون الشعر كلها.

على أنه مع تعدد الآراء، يمكن الاتفاق على أن جميلاً كان ملحوظ المكانة بين شعراء زمانه، ومعترفًا له بالإجادة والأستاذية إلى ما بعد زمانه، ويظهر ذلك من نظر الشعراء المبرزين إلى معانيه واقتباسهم منه.

لقى الفرزدق كثيرًا بقارعة البلاط ــ بالمدينة ــ فقال له الفرزدق: يا أبا صخر ! أنت أنسب العرب حين تقول:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لى ليلى بكل سبيل
يعرض له بسرقته جميل حيث يقول:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لى ليلى على كل مرقب

فأجابه كثير: وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وهذا البيت أيضًا مسروق من قول جميل:
نسير أمام الناس والناس خلفنا
فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

وهذان شاعران بارزان من أبناء عصر جميل يعترفان فيما بينهما بالاقتباس من معانى جميل، وهو اقتباس لا يخلو من شهادة وإكبار ودلالة على مكانة ملحوظة بين الشعراء.
وقد بقيت له هذه المكانة إلى ما بعد عصره عند أناس من شعراء العصر العباسى فى طبقة الفرزدق وكثير. فروى أن ابن الحسين المهلَّبى لقى أبا العتاهية فاستنشده من شعره فأنشده:

يا صاحب الروح ذى الأنفاس فى البدن
بين النهار وبين الليل مرتهن
لقلما يتخطاك اختلافهما
حتى يفرق بين الروح والبدن
لتجذبنى يد الدنيا بقوتها
إلى المنايا وإن نازعتها رسنى
لله دنيا أناس دائبين لها
قد أرتعوا فى رياض الغى والفتن
كسائمات رواع تبتغى سمنا
وحتفها لو درت فى ذلك السمن

قال ابن الحسين المهلَّبى: فكتبتها ثم استنشدته من شعره فى الغزل فقال: يا ابن أخى ! إن الغزل يسرع إلى مثلك، فقلت له: أرجو عصمة الله جل وعز، فأنشدنى:

كأنها من حسنها درة
أخرجها اليمُّ إلى الساحل
كأنّ فى فيها وفى طرفها
سواحرًا أقبلن من بابل
لم يبق منى حبها ما خلا
حُشاشة فى بدن ناحل
يا من رأى قبلى قتيلاً بكى
من شدة الوجد على القاتل

فقلت له: يا أبا إسحاق ! هذا قول صاحبنا جميل:

خليلى فيما عشتما هل رأيتها
قتيلاً بكى من حب قاتله قبلى

فقال: هو ذاك يا ابن أخى، وتبسم !
وأقل ما يدل عليه هذا وأشباهه أن شعر جميل كان يقرأ ويستحسن ويقتدى به فى معناه، وأنه ينال هذا الاستحسان عند فحول الشعراء فضلا عن الشُّداة المبتدئين، وهذه مكانة «الأستاذية» لا مراء.

وقد يزكى هذه المكانة ـــ فيما يورد الأستاذ العقاد ــ أن من بين من شهدوا له كان أناس عرفوا بالخيلاء وشدة الاعتداد بالقدرة الشعرية بين النظراء، ومنهم من كان أحرى ــ بخيلائه ــ بمنافسة جميل، ككثير عزة. كثير بن عبد الرحمن.

ومن خيلاء «كثير» فيما يروى الأستاذ العقاد، أن عمر بن أبى ربيعة والأحوص ونُصيبًا اجتمعوا فى مكان فأرسلوا إليه راويته يدعونه إليهم، فأكبر الأمر وسأل صاحبه متبرمًا: أما كان عندك من المعرفة بى ما كان يردعك عن إتيانى بمثل هذا؟.. قل لابن أبى ربيعة إن كنت قرشيًا فإنى قرشى، وإن كنت شاعرًا فأنا أشعر منك… قال راويته: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى به منى؟.. ثم رجع الرسول إليهم فأخبرهم بما سمع منه، فضحكوا ثم نهضوا معه فدخلوا عليه فى خيمة فوجدوه جالسا على جلد كبش، فما أوسع لهم من مجلسه !.

وهذا الشاعر على اعتداد بنفسه، وخيلائه، كان لا ينى عن الشهادة لجميل وتفضيله على نفسه، ويزهو بالسماع منه والرواية عنه والتتلمذ عليه.
سأله نُصيب: أجميل أنسب أم أنت؟ فقال: وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل؟.
وسئل مرة أخرى فقال: وهل علم الله عز وجل ما تسمعون إلا منه؟

وربما نقلوا عن كثير فى صدد إعجابه بجميل ما يستبعد صدقه سواء قاله أو لم يقله. كزعمهم أنه ذكر يوما أنه يروى لجميل ثلاثين قصيدة لا يعرفها الناس وأنه أمات له ألف قافية لينتحلها ويدعيها لنفسه. فإن ميدان جميل لا يتسع ــ فيما يقول الأستاذ العقاد ــ لألف قافية تسرق، ولا لثلاثين قصيدة تسقط من جملة شعره وهو محدود الأغراض متشابه الأنماط. وإنما يفهم من هذ الكلام ــ إن كان قد صدر من كثُير ــ أن فخره بالرواية عن جميل أكبر من فخره بشعره الذى يُنسب إليه، ولولا مكانة جميل عنده وعند الناس لما وقع فى خاطره وجرى على لسانه هذا الفخار.

[email protected]
www. ragai2009.com