وأول ما يستخلص من هذه المشاهدات والحقائق فيما يرى الأستاذ العقاد أن الغزل الحسن لا يشترط فيه المبالغة فى استحسان شمائل المحبوب، وأيضًا لا يشترط فيه الترفق والشكوى وضراعة الخطاب، وإنما هو التعبير الصادق عن الحب كما خلقه الله فى نفوس الأحياء، وهو بهذه المثابة شىء أعظم من حياة الإنسان نفسه.
وهو ظفر حيوى لأنه يحدث تأثيرًا على شخصية أخرى تنضوى إلى المحبوب وتفتح لها أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها.. فهو إذن غبطة وفرح وانتشاء.
وهو تضحية لأنه مطلب نوعى تهمل فيه منافع الفرد ولذاته وأمانيه، فهو إذن يأس وشدة وبلاء.
وهو لذة لأن الطبيعة تحتال على الفرد أحيانًا فى حبائلها فتريه لذته فيما تقوده إليه من أغراضها، فهو إذن نعيم وطرب وترنيم.
وهو حسرة لأنه يربط مسرات الدنيا كلها بمخلوق واحد، فتصير نعمة مهددة بالضياع.
وهو إقبال وإدبار، أوهو عراك ووئام وظفر وتسليم، واختيار وإكراه، وعزة وذل، وقسوة ورحمة، وخشونة ولين.
وهو كما خلق فى الغرائز جارف عنيف، وكما تعهدته الحضارة مهذب مصقول.
وهذا العالم الزاخر لا يمكن أن يكون فى قالب واحد أو لون لا يتبدل.
ومن تفوته هذه الحقيقة يفوته الحكم الصحيح على كل غزل وكل عاطفة غزلية.
وجميل نفسه، فيما يورد الأستاذ العقاد أبطل المبطلين فى عشقه وغزله عند مدرسة «الاستحسان» أو مدرسة «الرقة» حين قال:
رمى الله فى عينيىْ بثينة بالقذى
وفى الغر من أنيابها بالقوادح
وهو فى هذا البيت يسأل الله تشويه ما هو حسن فى عينى حبيبته وثغرها، وهما العيون والثغر أجمل ما يُتمنى المحب لهم الجمال فى وجه محبوبه.
بل إن هذا البيت أدل على عشق جميل لبثينة من عشر قصائد غزلية تفيض بالرقة والثناء، لأنه دليل على تباريح حب فاض به وحار فيه وغلبه على مشيئته.
وهذا فيما يرى الأستاذ العقاد هو أعمق الحب وأصدق الغزل.
ولك أن تقول فيما يضيف إنها أمنية رجل تغلب عليه «الأنانية»، ويلتمس الراحة بما استطاع من وسيلة، ولو كان فيها بلاء لمن يهواه، إلا أنك لا تنسى أنه تمنى تلك الأمنية لأنه أحب وضاق ذرعًا بحبه، وبلغ أقصى ما يبلغه العاشق من التعلق بالمعشوق، والعجز عن الفكاك من إرهاقه، فهى إن شئت «أنانية» ذميمة صادقة عنه. وهذا هو المرجع فى قياس الشعر وتحقيق العاطفة، ولا مرجع سواه.
وفى شعر جميل ما ينم على الأنانية لا مراء، كقوله فى الرائية المشهورة:
فلا نعمت بعدى ولا عشت بعدها
ودامت لنا الدنيا إلى ملتقى الحشر
فهو يتمنى البقاء معها إلى ملتقى الحشر، ولكنه يأبى عليها الحياة بعده ويسأل الله أن يموتا معًا إذا قضى الله أن يعجل بموته.
بيد أنها «أنانية» لا تخص جميل وحده بين العشاق فيما يراه الأستاذ العقاد، فلا يوجد عاشق يسره أن يتخيل معشوقته وقد نعمت بعده بحب غيره!
وهذه الامنية التى يتمناها الشاعر ليست دليلاً على قلة الحب، بل فيها دلائل على فرط الحب والاستغراق فيه، ويغلب أن بثينة أرضاها هذا من دعائه أكثر مما يرضيها دعاء السلامة لها والنعمة لها فى هوى العشاق بعده.
وللشعراء من مدرسة جميل فلتات مستغربة، ولعلها أغرب من فلتات جميل، ولا سيما الفلتات التى أُحصيت على تلميذه الأكبر «كثير» الذى صار أضحوكه بين الشعراء والنقاد لقوله:
ألا ليتنا يا عز من غير ريبة
بعيران نرعى فى الخلاء ونَعذِب
كلانا به عُرٌ فمن يرنا يَقُل
على حسنها جربى تعَدَّى وأجرب
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله علينا فما ننفك نُرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنك بَكرة هجان وإنى مُصعب ثم نهرب
نكون بَعيرىْ ذى غنى فيضيفنا
فلا هو يرعانا ولا نحن نُطلب
(العذوب من الدواب هو القائم الذى يرفع رأسه ولا يأكل أو يشرب، والبكرة من الإبل الصغير، والمصعب الفحل الذى يُراح من الركوب).
وقد عيره نظراؤه حين شاعت هذه الأبيات، وأمعنوا فى تعييبه حتى قال: «عجبًا. والله إنى لأحس فى عينى بعض الضعف من اليوم!»
وأيا كان فى قوله من السخف، فإنه يصدق فى التعبير عن حبه ويدل عليه بلا اصطناع أو تصنع.
ويختم الأستاذ العقاد هذا الفصل بقوله:
«وها نحن أولاء قد رأينا عشاقًا يتمنون الموت لمن يحبون، وعشاقًا يتمنون التشويه لمن يحبون، وعشاقًا يتمنون الخلاص ممن يحبون، ورأينا أنهم أحبوا وصدقوا التعبير عن الحب وإن عيبت عليهم الأثرة أو الغفلة أو الجفاء، فلا غرابة إذن فى شعر غرامى تعوزه الضراعة والشكاية، أو يعوزه الثناء والاستحسان، ولا شرط للغزل الصادق إلا التعبير عن الشعور، الذى يختلج فى قلب صاحبه كائنًا ما كان الرأى فيه وفى خلقه وعقله وأمانيه».
[email protected]
www. ragai2009.com