ليس من الرقة فيما يقول الأستاذ العقاد، وإنما هو قول المجنون :
كأن فؤادى فى مخالب طائر
إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
علىَّ فما تزداد طولا ولا عرضا
ذلك أن قلب السامع ينقبض من هذه الكلمات، ويحرج صدره من هذا الوصف.
إلاَّ أن الأستاذ العقاد يعقب بقوله : ومع هذا فأى شعر أبرع من هذه الشعر، وأى شاعر أطبع وأعشق من المجنون ؟
ليس مجرد عشق صادق ما يشب أواره وتتأزم حلقاته بالعاطفة حتى ليود صاحبها دوامها ويستريح إلى مناجاتها، وإنما هو « غمة مطبقة » فيما يقول الأستاذ العقاد يود المبتلى بها لو تنقضى لساعتها، ويقوم فى نفسه صراع لا تهدأ ثائرته ولا يهنأ بالغلبة فيه، لأنه هو الغالب والمغلوب فى هذه الحيرة التى يقول فيها الشاعر المجنون :
فوالله ما فى القرب لى منك راحة
ولا البعد يسلينى ولا أنا صابر
ووالله ما أدرى بأية حيلة
وأى مرام أو خطار أخاطر
«وكان كاتيولس الشاعر الرومانى يدعو الآلهة قائلاً: أيتها الآلهة ؛ إن كانت لك رحمة بالقلوب الصديعة المشفية، فبحق براءتى عليك ألا ما نظرت إلى عذابى، ورثيت لما بى، ومسحت عنى هذا الوباء الماحق، والبلاء اللاحق، وهذه اللوعة التى تسربت رعدتها فى عروقى فنفت الهناءة عن قلبى».
وهى رعدة يقول فيها جميل :
وإنى لتعرونى لذكراك رعدة
لها بين جلدى والعظام دبيب
ووهلة المجنون التى يصفها بقوله:
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائرًا كان فى صدرى
«فإن طاوعته نفسه فى نزاعه ذاك وإلا حنق عليها، وذهب به الحب إلى كره ذلك المخلوق المسلط عليه، الذى حرمه نعمة الطمأنينة، وجلب عليه هذا الشر، وفرق بينه وبين نفسه، فيحب ويكره فى آن واحد. وربما تمنى لحبيبه الموت لعل اليأس منه أن يشفيه، كما قال جنادة العذرى:
من حبها أتمنى أن يلاقينى
من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له
وتضمر النفس يأسًا ثم يسلاها
ولو تموت لراعتنى وقلت ألا
يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها
وكان كاتيولس يقول: «إنى لا أكره وأحب. تسألنى كيف ذلك ؟ من يدرى ! ولكنى أحس بحقيقة هذا الأمر وشدة برحائه».
وكذلك كان يقول المجنون :
فيا رب إذ صيرت ليلى هى المنى
فزفنى بعينيها كما زنتها ليا
وإلا فبغّضها إلىّ وأهلها
فإنى بليلى قد لقيت الدواهيا
هذا وليس فى نعت الحب بالداهية شىء من الرقة والدماثة، وإنما هى حقيقة اجتمع عليها شاعران لا صلة بينهما من أى وجه، بل واتفق عليها كل شاعر عالج من العشق ما عالجه هذان الشاعران.
وأحيانًا يثوب العاشق إلى نفسه ليبدو له فيما يقول الأستاذ العقاد كأنه مختار فى شغفه وسلوته، فإن شاء سدر فى الحب وإن شاء صدق، وإن شاء مضى فى قلبه وإن شاء وقف. فلا يقين لديه مع عجزه وقلة حيلته، وكينونة الأمر وراء مشيئته.. وهذا هو الذى يصفه جميل إذ يقول :
ألا قاتل الله الهوى كيف قادنى
كما قيد مغلول اليدين أسير
أو كما يقول المجنون :
هى السحر إلا أن للسحر رقية
وإنى لا ألقى لها الدهر راقيا
أو كما يقول جميل :
يقولون مسحور يجن بذكرها
فأقسم ما بى من جنون ولا سحر
وما الجنون والسحر إلاَّ ما يعانيه، وليس أصدق من هذا فى وصف العشق.. فهو مزيج من الجنون والسحر.
هكذا ظن جميل، وهكذا ظن كل عاشق يسمع بلذة العشق ولا يرى أين هى، والحقيقة أن العشق فيما يقول الأستاذ العقاد ــ لا يخلو من الشقاء!
[email protected]
www. ragai2009.com