ليس سهلا على الكاتب الأسبوعى الانقطاع أكثر من شهر عن الكتابة، إلا لو كانت الأحداث والتطورات والعواقب أسرع من قراءاته وملاحظاته، خاصة إذا كانت رؤى كتاباته تهتم بفهم وتفهم وتجاوز أزمات الواقع، لاستقراء المستقبل ونحته بإبرة الحسابات والاحتمالات والصبر، خصوصا إذا استهدف بهذا المستقبل صورة إيجابية مُعدلة لمشاكل وأزمات الواقع، لتنمية حقيقية ترقى المجتمع باستغلال وتوظيف موضوعى لطاقاته البشرية والطبيعية والجغرافية، فتحقق إنتاجا وخدمات حقيقية تستبدل تدريجيا الأزمات بفرص.
لا شك أن مصطلح (الجمهورية الثانية أو الجديدة) سيرتبط دوما بمفهوم عبارة (عهد السيسي)، سواء كقائد ورئيس، أو قرارات الإدارة العليا والوسطى، أو بالخدمات والبنية التحتية، أو الوعى الجمعى للمصريين بمكوناته التعليم، والدين، والثقافة، والفن، أو حصد الرياضيين للذهب، أو التكلفة الاقتصادية وأوجه الإنفاق الحكومى بمصر، لتتحقق بالتوازى مجموعة طفرات فى البنية التحتية والعسكرية والديون والتطرف المجتمعى والتدهور السلوكى والفساد الإدارى وتهرؤ الذوق، لتصعب مهمة أى مؤرخ يرصد بإنصاف هذا العهد بما أنجزه فعلا فى 9 سنوات، بعد تحديات 60 سنة مع التأميم والإخوان والانفتاح الاستهلاكى والخصخصة والتطبيع إلخ.
استشرف مقالى الأخير 11/ 8/ 22 جمهورية «حتمية حفظ العهد لوجود مصر الجغرافى والبشرى»، وبلور وقتها التهديد الجغرافى فى أزمة سد النهضة، والبشرى فى تهرؤ الوعى الجمعى. وخلال التدبر، أصبح خطر حفظ الأصول المصرية (مشاريع قومية، شركات كبرى، استغلال وامتيازات الثروات الطبيعية)، حتمية أخرى لجمهورية الوجود لتحفظها بالتنمية والمشاركات، لا بقرارات البيع ودعم الاستحواذات الابتلاعية، التى لم تعد حلولا لجمهورية الاستمرار، المعنية بحل مشاكل الديون والقروض! وإلا دخلنا مثلا النادى الصينى لمصيدة الديون، كباكستان وجزر المالديف وكرجيزستان والجبل الأسود ولاوس (ضغطت بكين على الديون المحاصرة بطاجيكستان لتسليم 1158 كم من الأراضى المدينة للصين بـ 1.2 مليار دولار أمريكى، من إجمالى ديون 2.9 مليار دولار!)
45 يوما تقريبا والأخبار والأزمات والمشاهد المحلية والإقليمية والدولية، تتوالى بضراوة صامتة تنبئ عن حرج لمكونات الوجود ومشاكل الاستمرار، مسؤوليات غير طبيعية على القائد الإنسان، الذى ينسب لعهده زخم من الإنجازات والأزمات أيضا. قاعدة الغنم بالغرم (بقدر الكسب يكون الدفع) تتوالى بكل الاتجاهات، ليعايش المهاجمون غُنم إنجازات البنية التحتية مثلا ويرفضون دفع ثمنها بالصبر أو العمل! من جهة أخرى فالثمن بالنار والكوى، تارة بالتضخم وأخرى بالقرارات غير المدروسة، بجانب مشاكل تعويم الجنيه والدولار الجمركى، تشدد الإجراءات وصعوبة الكسب، وضعف الأجور والأهلية المهنية، مع إعلام وسوشيال ميديا ينتحران لكسب المشاهدات والتعليقات، على حساب الحقيقة والقيم.
كل ذلك، يجاور موازنة مصر بين فريق روسيا وحلفاء أمريكا فى مواجهة قادمة، قد يكون التوازن فيها خطرا، إلا إذا نحتت مصر لها دورا كطرف وليس حجرا على رقعة شطرنج النظام العالمى الأجدد! مهمة صعبة وحرجة جدا، فى ظل مديونية مليارية ومواعيد سداد وضغوط تنفيذ ومد شعبى سلبى وتحالفات خارجية تغتنم الفرصة الذهبية. جمهورية الاستمرار (لحل المشاكل) واقعيا، منقسمة بين الإدارة بجانب والشعب ومؤثرين بجانب آخر! فما هى التنمية الحقيقية المنتظرة من هذا الصراع؟ جانب ينعى على الآخر الاستثمار فى الحجر لا البشر، والآخر ينعى عليه تأخر حل المشاكل وعدم فهمه لحتمية تكلفته! ومع ذلك فبدون الشعب لا يوجد حاكم، ولكن بدون الحاكم يضيع الشعب! هذه المعادلة محور هجوم كل أنواع الطابور الخامس، المتفنن فى دوامات المشاكل والظواهر المُقحمة وإفساد الوعى، لزيادة الهوة بين الجانبين بإرهاقهما لتعقيد حل المعادلة! بعيدا عن التنمية الحقيقية المحتاجة لرؤية وحاكم وحكومة وقوانين ونظم واستراتيجيات، مقابل شعب واعٍ بقطاع خاص، رأسمالية وطنية، موارد بشرية مؤهلة، علماء وخبراء ثقة، شراكات مؤّمنة، متعلمين واعدين لأسواق مستهدفة، استثمارات حقيقية للإنتاج والخدمات وليس السواحل والكافيهات.
إن استشراف إمكانية بدايات تنمية حقيقية بالوضع الحالى يجعلنا نتدبر؛ بين تصفية شركتى «الكوك» و«الحديد والصلب» بمصر وخطة تمكين ذات الصناعة بالسعودية؟ انطلاق صناعة السيارات الفرنسية من المغرب وأعاجيب صناعتها واستثماراتها بمصر؟ مراكز بيانات «أمازون ويب سيرفس» بدبى و«مايكروسوفت» بقطر باستثمارات 21 مليار دولار، أمام مناشدة المتخصصين لتطوير البيئة القانونية والإدارية والاستثمارية لتكنولوجيا المعلومات بمصر؟
ظاهرٌ أن تحديات الجمهورية الجديدة غير مسبوقة لفهم معادلة وجودها ذاته! «بدون الشعب فلا يوجد حاكم، ولكن بدون الحاكم يضيع الشعب». المعادلة مطلقة بدون تشخيص أو تورية، ولكن الأسهل دوما إلقاء التبعة على الحاكم لكون الشعب أبقى. ومع ذلك فلا مفر من مواجهة أن طبقات الحكم بمصر موغلة فى القدم والتعقيد، فعمود الحكم دوائر داخل بعضها أفقيا، وتتراص فوق بعضها رأسيا، ليكون كسرها صعبا واختراقها مستحيلا وتأثيراتها المتبادلة محدودة، فيحكمها الزمن لا الإنجاز (واللى ميتعملش اليوم نعمله بكرة أو بعده أو لما يسأل عنه! فالمرتب آخر الشهر والترقية بالدور والعصا للنابهين).
لا يوجد أدنى شك فى وطنية ورؤية وإخلاص العديد من دوائر الحكم، ولكن مصرنا تستحق إجابة على مواطن تسريب القيم، تحجر الفكر، عشوائية القرارات، استحلال التجريب، صناعة المصالح، سند البلطجة، تفشى الفتاوى، استراتيجية التفكيك، مقاومة الخبرات، والعديد من الظواهر التى تعوق تنمية بلد بحجم وإمكانيات مصر (موقع، مساحة، موارد، سكان، قيادة يتمناها الكثيرون).
العبور للتنمية الحقيقية، يحتاج «روح أكتوبر» فى الحرب عند الإدارة والشعب معا! ولكن كيف وهمة الشعب مستنفرة بصراعات كرة القدم والمهرجانات وحرية الاعتقاد والمادة 98 عقوبات وإعلام الدم وتجويع الفكر وبروزة السطحية. وهمم الإدارة مستغرقة فى العقلية الرصينة للبيروقراطية الحديثة، هجين سيد أفندى وبزنس المدن الجديدة والوساطة العالمية؟
مازلنا بجمهورية نفضة حماية الوجود واستمرار حل المشاكل!
فللتنمية حديث آخر!
* محامى وكاتب مصرى