جمال عبد الناصر .. تفكير بعد خمسين سنة ..

جمال عبد الناصر .. تفكير بعد خمسين سنة ..
طارق عثمان

طارق عثمان

6:08 ص, الأحد, 18 أكتوبر 20

(5) البحث فى الموجود

الفكرة الحاكمة فى بداية حكم عبدالناصر كانت أنها لحظة تاريخية.. والحقيقة أنه بغض النظر عن النتائج، فإن ذلك كان صحيحاً، ربما بأكثر مما تصور صانعو هذه اللحظة التاريخية.

حركة الجيش تحت قيادة الضباط الأحرار أنهت حكم الملك فاروق، لكن التغير الأوسع هنا كان إنهاء حكم أسرة محمد على.

هذه الأسرة كانت قد وصلت فى الأربعينيات من القرن العشرين إلى نقطة تكررت كثيراً فى تاريخ الأسر الحاكمة: لحظة تتركز فيها الشرعية، ويستقر فيها الحكم لحلقة ضعيفة من الأسرة، تجعل الحلقات القوية حانقة وأحياناً متمردة، وتؤدى بالعقول النيرة فى الأسرة إلى الابتعاد، وقد كان ذلك ما حدث بالضبط مع ترسخ الحكم للملك فؤاد ثم وصوله لفاروق وهو لم يكمل بعد عامه الخامس عشر.

و بعيداً عن فاروق كإنسان، وعن عواصف الحزن والألم التى طاحت فى حياته، فإن فترة حكمة (بعد فترة حكم أبيه) نخرت فى أسس شرعية وقوة وجود أسرة محمد على على قمة الحياة فى مصر.

لكن النقطة المهمة هنا هى أن حكم أسرة محمد على كانت الإطار الذى تكونت داخله كل مقومات الدولة المصرية الحديثة.

أولاً، كان هناك مشروع الخروج من إطار الإمبراطورية العثمانية (و الذى وإن كان قد فشل، إلا أنه وصل إلى نقطة متقدمة جعلت من مصر طيلة القرن التاسع عشر، وإلى سقوط تلك الإمبراطورية فى بدايات القرن العشرين، دولة بعيدة جداً عن النفوذ المباشر لإسطنبول).

ثانياً، كانت هناك التغيرات السياسية التى قام بها محمد على باشا، والتى أنهت سلطة المماليك وقللت بشكل حاسم النفوذ السياسى للهيئات الدينية، والأهم، أنها خلقت مركزية فى الدولة المصرية، كانت مفقودة لثلاثة قرون على الأقل قبل ذلك.

ثالثاً، كان هناك مشروع التطور الذى وضعه محمد على باشا على أساس الإقرار بتقدم الغرب والحاجة إلى التعلم منه والأخذ بأسبابه، وقد كان ذلك وقتها ثورة فكرية على أُطر دينية واجتماعية مترسخة فى المجتمع.

رابعاً، كان هناك مشروع إمبراطورية مصرية على طول الساحل الشرقى للبحر الأبيض المتوسط، قاده ابن محمد علي: إبراهيم باشا، وهو مشروع وإن قد فشل بعد عقد من النجاح (وكان فشله بعد تدخل بريطانى مباشر ضده)، إلا أنه حدد معالم التوسع الاستراتيجى (فكراً ونفوذا) للدولة المصرية الحديثة.

خامساً، كان هناك التطور العمرانى والجمالى فى عصر إسماعيل باشا (حفيد محمد علي)، وكان ذلك التطور هو الرداء الجميل الذى كسا جَسَد الدولة بعد أن تطورت تجربتها.

سادساً، كانت هناك محاولات – ليست من داخل أسرة محمد على، ولكن من دوائر أحاطت بها – لوصل حكم الأسرة ومشروعاتها بالشعب المصرى، ذلك أن كل مشروعات محمد على وإبراهيم وإسماعيل كانت شخصية أو للأسرة، ناظرة لمصر على أنها أرض خصبة وثرية، تمت السيطرة عليها، وأصبحت قاعدة لمشروع تلك العائلة للحكم وللنفوذ وللثراء. لكن ما حاولته تلك الدوائر التى أحاطت بالعائلة فى بدايات القرن العشرين، هو أن توطد الصلة بين حكم العائلة وتراث الشعب المصرى. ولم يكن ذلك صعباً، لأنه بعد قرن من الزمان (منذ بداية حكم هذه العائلة فى أوائل القرن التاسع عشر)، نُسِجت الكثير من الصلات بين العائلة الحاكمة والأرض التى حكمتها والناس الذين تحكموا فيهم.

مع كل ذلك، كانت اللحظة الدولية حول تلك المشروعات والتجارب للاسرة، مهمة وفى قرن (من بدايات التاسع عشر إلى بدايات العشرين) يُوصف، بحق، إنه قرن الثورات الكبرى (والمقصود الثورات العلمية والفكرية) – تغيرت فيه معالم أوروبا بعد المشروع النابليونى وحروبه، ظهر فيه العالم الجديد (أمريكا الشمالية والجنوبية) كقوة اجتماعية واقتصادية مهولة، ترنحت ثم سقطت كل عروش أوروبا الكبرى باستثناء العرش البريطانى، وتغير فيه مفهوم الحرب بشكل جذرى، وظهرت تكنولوجيات غيرت شكل الحياة، وأيضاً ظهرت أيديولوجيات ألهبت فِكْر العالم. والحاصل أن مكونات الدولة المصرية الحديثة التى تشكلت فى ذلك القرن كانت نتائج هذه المشروعات والمحاولات والتجارب لأسرة محمد على، وفى ظل هذه التغيرات الكبرى فى العالم.

معنى هذا، أن إنهاء حكم أسرة محمد على استدعى معه البحث فى تلك المكونات للدولة، لأنها ارتبطت بأسرة محمد على، ليس فقط بالفكر والتجربة ولكن أيضاً بالتنفيذ والأدوات.

لكن هذا البحث لم يحدث، على الأقل لا يوجد لدينا ما يدُل على أن صانعى اللحظة التاريخية فى أوائل الخمسينيات فى مصر توقفوا ليراجعوا ما كان ماثلاً أمامهم من مكونات الدولة التى استولوا عليها بعد أن أسقطوا حكم أسرة محمد على. الذى حدث فى الواقع، أن جوهر مشروع جمال عبد الناصر – التحرر والتقدم (راجع الحلقة السابقة) – استدعى نوعاً من البحث فيما كان موجوداً أمام هذا المشروع، ولكن البحث كان بالتجربة وليس بالفكر.. وكانت التجربة حافلة بما تم تطويره، وحزينة بقيمة ما ضاع.

* كاتب مصرى مقيم فى لندن