المدينة (ميونيخ) أوروبية، الحضور، وإن كان من أرجاء كثيرة من العالم، كان أوروبيا بالدرجة الأولى. والأجندة، وإن ضمت عدداً من القضايا الدولية، كانت تعبر عن اهتمامات أوروبا.
لعل الكلمة الأدق هنا، المعبرة عن كواليس مؤتمر ميونيخ للأمن، هى مخاوف (وليس فقط اهتمامات) أوروبا. والخوف الأكبر على مصالح أوروبا ورخائها وأسلوب حياتها، فى السنوات المقبلة الحاملة، مؤكداً، لعدد من المخاطر.
الخطر الأول، من وجهة النظر الأوروبية، يتعلق بتطور المنافسة الأمريكية-الصينية لصراع. بدا ذلك واضحاً فى الخلافات الاقتصادية التى وصلت إلى عقوبات أمريكية، كما بدا واضحا أيضاً فى مشاكسات ببحر الصين، غالباً ستكون بدايات لها ما سيتبعها.
أوروبا تنظر لذلك الصراع بتوتر شديد ذلك لأنها تعلم أن الدواعى التى دعت الولايات المتحدة للالتزام بحمايتها أوروبا طيلة السبعين عاما الماضية، بدأت تختفى – خاصة فى ظل انتقال الثقل العسكرى والاقتصادى والصناعى والمالى الى آسيا.
وفى الوقت نفسه، فإن أوروبا، وبالرغم من نجاحاتها الاقتصادية، ما زالت بعيدة جداً عن الوحدة السياسية او القدرة العسكرية التى تمكنها من تشكيل قوة قادرة على حماية المشروع الأوروبى اذا تعرض لتهديد. ومع ذلك، فإن عدم وجود قدرات عسكرية أوروبية على مستوى القارة يعنى أن أوروبا لا تستطيع فعليًا أن تتصرف كقوة دولية، حتى فى الأماكن التى تتصورها ذات أهمية استراتيجية لها، مثل حوض البحر الأبيض المتوسط.
الخطر الثانى، أن المخاطر القديمة لم تختفى، ولكنها اتخذت أشكالاً جديدة. مثلاً، الاتحاد السوفيتى، بعقيدته الشيوعية، اختفى، لكن روسيا الآن، ليست فقط على الأبواب الشرقية للاتحاد الأوروبى، ولكنها أيضا قوة كبرى فى شرق البحر الأبيض المتوسط، وهى هناك بقواعد طويلة الأمد، أى هناك لتبقى. كما أن روسيا أيضا فى البلقان، وإن بتواجد أقل وضوحًا، ولكنه أكثر عمقاً، خاصة فى المجتمع. والبلقان هو مكان التوسع المحتمل للاتحاد.
يترتب على النقطتين أن أوروبا لا تستطيع واقعيا أن تتعامل مع الولايات المتحدة والصين على قدم المساواة، لا تستطيع فرض تصوراتها عن آى منطقة فى العالم، بما فى ذلك تلك التى تراها أوروبا ذات أهمية خاصة لها، لا تستطيع أن تؤثر فى اتجاهات الريح العاتية القادمة بصراعات بين الولايات المتحدة والصين، ليس لديها إجابة للسؤال الكبير المتعلق بأمنها فى السنوات القادمة، وأخيراً أوروبا تجد الدب الروسى (و هو دائماً على مر قرون مصدر رعب لأوروبا) واقفا على الشرق وعائما بثقة فى البحر فى الجنوب.
فى مؤتمر ميونيخ، أوروبا بدت واثقة من نفسها. وقد كان الحضور الأوروبى على مستوى القمة، خاصة أن مانويل ماكرون، رئيس فرنسا، كان موجودًا لأكثر من يوم كامل. كما أن الحضور من المفوضية الأوروبية عبّر عن الدوائر المهمة فى التأثير فى التفكير الجيو-سياسى والأمنى فى أوروبا. لكن مظاهر الثقة الأوروبية وإن عبرت، بحق، عن الثراء والرفعة والتحضر فى القارة الجميلة الراقية، لا تعبر عن قوة. بل إنها أحياناً تكون مساحيق تخفى مخاوف.
و ذلك يأخذنا الى الخطر الثالث: الاختلافات الواضحة فى رؤية الأمن الأوروبى بين أوروبا الغربية والشرقية. وذلك يبدو ظاهرًا بحدة فى التباين فى التصور الاستراتيجى لدى فرنسا لأمن أوروبا وتموضعها الجيو-ستراتيجى وبين رؤية بولندا، وهى الآن الدولة المحورية فى شرق القارة. والمشكلة، أن فرنسا تتصرف وكأنها زعيم المشروع الأوروبى (خاصة فى لحظة انتقال سياسى بألمانيا من زعامة إنجيلا ميركل إلى مستشار جديد قادم فى خريف 2020) بينما القوى الجديدة فى الشرق (وأهمها بولندا) أبعد ما تكون عن التسليم بتلك القيادة. والمهم هنا أيضا، ان بعض دول الشرق الأوروبى تتصور أنها أقرب إلى واشنطن من دول الغرب (ولعل هناك بعض الصحة فى هذه التصورات، خاصة فى ظل حكم الحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة). كل ذلك يعنى أن أوروبا تواجه الخطرين الأول والثانى وداخلها انقسامات، ليس فقط على مواقع القيادة، ولكن أيضا على رؤية المستقبل.
بعض المتابعين الأوروبيين، خاصة فى كبرى الصحف الفرنسية، فى حالة تقترب من اليأس، يرى فيها أن مستقبل المشروع الأوروبى فى مهب الريح، وأن الإطار العام الذى نما هذا المشروع تحته (الحماية الأمريكية) لن يكون موجودًا فى المستقبل القريب. بعض المراقبين وصلوا إلى ما هو ابعد من ذلك وتحدثوا عن «نهاية الغرب» (قاصدين التلاحم الثقافى والسياسى والعسكرى الذى جمع أوروبا، ومعها بريطانيا، بالولايات المتحدة).
الصورة فى ميونيخ كانت داعية للقلق. أوروبا، بلا شك، تواجه مخاطر. وبالرغم من مظاهر الفخامة والثقة ولمسات الرقى والأناقة، ليست هناك دفاعات حقيقية أمام تلك المخاطر.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن