“الحكم بعد المداولة.. جملة نطق بها رئيس محكمة جنايات الزقازيق لتتسارع معها دقات قلب الجاني من خلف قفص الاتهام، وأهل القتيل داخل القاعة في انتظار إسدال ستار العدالة”،، كان هذا مشهدًا من آخر جلسات محاكمة مرتكب جريمة قتل محمد سائق “توك توك” بدافع سرقة مركبته في مركز الحسينية بمحافظة الشرقية.
وظل يراود الصحفي المتواجد في قاعة المحاكمة أسئلة تتعلق بتلك الجريمة متكررة الحدوث وظهورها المتزايد في الأخبار وبيانات وزارة الداخلية والنيابة العامة، فمن يقتل سائق “التوك توك”؟ ولماذا هو دون باقي سائقي المركبات؟ وهل الظروف الاقتصادية دافع لهذه الجريمة؟ أم السبب منظومة سير المركبة وآلية تراخيصها؟
مشوار الموت
ولما لتلك المركبة من انتشار في ربوع مصر، أصبح “التوك توك” وسيلة المواصلات الشعبية، ومصدر دخل لعدد من الشباب والأسر التي لا يمتهن أفرادها عملًا ثابتًا.
أجرينا بحثًا على قاعدة بيانات أرشيف الأخبار خلال الفترة من 1 يناير 2021 حتى 30 يونيو 2023 بواقع (30 شهرًا)، كعينة لتحليل هذه الجريمة التي يقع فيها سائق التوك توك “ضحية”، لمن لديهم أزمات مالية، عكس ما انعكس في الأذهان عنه بأنه دائمًا الجاني.
ومن خلال البحث، رصدنا الأسلحة المستخدمة في الجريمة، وأعمار الجناة والمجني عليهم وأعدادهم، وأماكن تنفيذ الجريمة، والأحكام القضائية الصادرة.
واستخدمنا في البحث أداة توليد الصور بالذكاء الاصطناعي bing، في إنشاء صورة تعبيرية عن جريمة قتل سائق التوك توك، كما هي موجودة أعلاه.
كما رصدنا أعداد مركبات التوك توك الموجودة في مصر، والتي بلغت 5.6 مليون ما بين مرخصة وغير مرخصة، وفقًا لتقرير المركبات المرخصة الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2022، ورصد من رابطة مركبات التوك توك، وسنكشف التفاصيل في القصة.
واستعنا في البحث بدراسة أجراها مركز جسور للدراسات عن الجرائم والحوادث بمصر في 14 عامًا، من أجل الحصول على عدد الجرائم التي ارتكبت في حق سائق التوك توك بدافع السرقة خلال أعوام (2016 حتى 2020) – نظرًا لتوافق منهجية البحث بالتحليل من أرشيف الأخبار- واستكملنا تحليل بيانات قاعدة الأرشيف من 2021 إلى 2023.
وكشفت نتائج التحليل عن بدء تصاعد هذه الجريمة منذ عام 2016 ليسجل عام 2022 أعلى معدلات ارتكاب جريمة قتل سائقي التوك توك بدافع السرقة بعدما تضاعفت أكثر من 1000% خلال 8 أعوام، من إجمالي 7 جرائم إلى 80 جريمة خلال فترة المقارنة، ما يعكس أثر الظروف الاقتصادية التي حدثت خلال هذا العام على ارتكابها.
وبالتركيز على نتائج البحث على مدار 30 شهرًا، فقد سجلت شهور فبراير وأغسطس وديسمبر من عام 2022 أعلى الأرقام في ارتكابها.
ضحية لقمة العيش
في ليلة شتوية تخللتها العواصف والأمطار، خرج «محمد» -البالغ من العمر 22 عامًا- يبحث عن مصدر قوت أسرته متحديًا الظلام وسوء الطقس، حتى يتمكن من دفع أقساط قرض “التوك توك” الذي اشتراه منذ 4 شهور، ويستكمل متطلبات زفافه الذي اقترب، وعلاج والدته المريضة بالكبد، وتجهيز اثنتين من شقيقاته.
وعندما جاءته توصيله لقرية تبعد عن قريته 25 كيلومترا نظير 100 جنيه وافق فرحًا بالمبلغ، لتكونَ التوصيلة الأخيرة التي تنقله إلى الحياة الآخرة بمقتله على يد آخر زبون، طمعًا منه في سرقة التوك توك، بعدما قاوم ورفض تسليم مصدر دخله وأسرته، وآخر جملة يرددها لسانه: «على جثتي».
ولم يكن محمد الوحيد أو الأخير في تلك الجريمة، بل كشفت نتائج التحليل أن هناك 160 ضحية بواقع مجني عليه واحد في كل جريمة خلال 30 شهرًا، اختلفوا في الأسماء واتفقوا بصفتهم “شهداء لقمة العيش”.
وبتصنيف الفئات العمرية للضحايا والجناة داخل البحث: طفل (عام حتى 18 عامًا)، شاب (19 حتى 40 عامًا)، بالغ (41 حتى 55 عامًا)، مسن (56 حتى 70 عامًا) –استنادًا لنماذج سابقة من بيانات من محاضر الشرطة- وجدنا أن نسبة 72% من الضحايا أعمارهم في سن الشباب، و24% من الأطفال، أما الجناة فسجلت نسبة 97% من منفذي الجريمة شبابًا، و1% أطفال.
ومن خلال البحث، كشفت النتائج أن هناك 18 محافظة شهدت وقوع تلك الجريمة، سجلت فيها القاهرة المرتبة الأولى، وتلتها الشرقية ثم الجيزة، وتزيلت محافظات الصعيد النتائج.
وعند تتبعنا تراخيص مركبات “التوك توك” وفقًا لآخر إصدار من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2022، كانت القاهرة “زيرو تراخيص”.
ومن خلال الخريطة المعروضة أوضحنا أعداد الجرائم التي ارتكبت خلال كل عام على حدة والإجمالي، وعدد الجناة في كل محافظة وموقفها من التراخيص، والمحافظات الأخرى التي لم نرصد بها جرائم.
وكشف البحث أن عدد المتهمين في جرائم قتل سائقي “التوك توك” خلال 30 شهرًا بلغ 357 متهمًا، بينهم 13 سيدة، و344 رجلًا بنسبة تمثيل 4% للمتهمات الإناث، و96% ذكور.
وأظهرت نتائج البحث أن يوم الثلاثاء سجل أعلى معدلات أيام الأسبوع في ارتكاب الجريمة، وكان الجمعة الأقل، خلال فترة التحليل.
قاتل بالصدفة
داخل مقهى في منطقة المرج بمحافظة القاهرة، جلس الشاب “أحمد” يفكر في التزاماته المادية والديون المتراكمة عليه وهروبه من سدادها بعدما فشل في إيجاد فرصة عمل، فخطرت بذهنه فكرة إجرامية باستدراج سائق توك توك من صغار السن، وتهديده بالسلاح الأبيض ليتمكن من سرقته، معتقدًا بأنه سيتخلى عن المركبة -ولم يكن ينوي وقتها قتله- واتصل بـ”هاني” أحد أصدقائه واتفق معه على التنفيذ سويًا، وقررا الذهاب إلى منطقة الخصوص حتى لا يتعرف عليهما أحد.
وعلى جانب الطريق وقف أحمد وهاني ينتظران ضحيتهما ممن يصغرهما في العمر ليسهل السيطرة عليه، وبعد نصف ساعة استقرا على الضحية، وأثناء التوصيلة عند منطقة خالية من المارة هدداه بالسلاح من الخلف ليترك “التوك توك”، ولكنه رفض فانقضا عليه بالطعنات حتى فارق الحياة، ثم ألقيا جثمانه في مصرف مائي، ليكشف البحث بعد تحليل اعترافات المتهمين ونتائج التحقيقات، أن نسبة 73% من مرتكبي جريمة قتل سائقي “التوك توك” بدافع السرقة من العاطلين، الذين لم يسبق لهم ارتكاب جرائم من قبل، ومرورهم بضائقة مالية ومقاومة الضحايا –وقت الحادث- دفعتهم للجريمة.
وأظهرت النتائج أن 5% من المتهمين في تلك القضايا من اللصوص، وكانت المفاجأة أنهم لا يقتلون سائق المركبة، ولكن يعتدون عليه بغرض شل حركته والاستيلاء على التوك توك.
واتضح من نتائج التحليل أن دافع ارتكاب تلك الجريمة كان سرقة بالإكراه مقترنة بجريمة قتل بنسبة 74%، يليها سرقة بالإكراه بنسبة 16%، و10% من الجرائم ارتكبت بدافع القتل والسرقة.
وأوضحت نتائج التحليل أن جميع الجرائم التي ارتكبت خلال فترة الرصد، استخدمت فيها حيل استدراج للضحايا بالتوصيل، وساهمت سيدات في استقطاب المجني عليهم.
أما عن أماكن تنفيذ جريمة قتل سائقي التوك توك، فاستغل الجناة عدم وجود مراقبة على خطوط سير التوك توك، وطبيعته التي تسمح له بالسير في الطرق المتطرفة، وارتكبوا الجرائم بالمناطق المهجورة والطرق النائية والأراضي الزراعية، مع إلقاء الجثامين في المصارف المائية -إن وجدت في ذات منطقة الجريمة.
وأشارت النتائج إلى أن السلاح الأبيض (سكين – مطواة) كان أداة إنهاء حياة سائقي التوك توك بنسبة 65%، مع استخدام أدوات أخرى توفرت وقت ارتكاب الجريمة، مثل الحجر والحبل والشوما، إضافة إلى الشطة التي استخدمت لشل حركة الضحية، بإجمالي 175 أداة قتل.
وفي هذه الجريمة -التي هدفها سرقة “التوك توك”- أظهرت نتائج تحليل الجرائم التي تمت خلال 30 شهرًا، وجود أحداث قدرية بعد قتل السائق تتسبب في فشل سرقة المركبة، منها انفجار إطارات الكاوتشات، أو تعطل المركبة، أو التوتر الذي يصيب الجاني فلا يستطيع قيادتها.
الراكب الأخير يرسم النهاية
اتصل عبد الرحمن بوالدته يخبرها بأنه ذاهب لتوصيله -في قرية تابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية- فانقبض قلبها وطلبت منه الرجوع، ولكن طفلها الذي لم يبلغ من العمر 15 عامًا، رد عليها: “المشوار دا وهروح”، وبعدها بنصف ساعة أغلق هاتفه، وظل قلبها يحدثها بأن مكروهًا أصابه، ومع فشل كل عمليات البحث عنه لأكثر من 48 ساعة، ذهبت لتحرير محضر غياب في قسم الشرطة، لتكتشف بعد أسبوع قتل نجلها على يد صديقه، والعثور على جثمانه في جوال داخل مصرف مائي، وهنا حكاية عبدالرحمن واحدة من بين قصص جرائم ارتكبت بنسبة 22% بيد أصدقاء وجيران ومعارف.
وعلق المستشار صبري عبده رئيس رابطة مالكي “التوك توك”، على هذه النتائج، قائلًا: إن مركبات التوك توك أصبحت مصدر دخل لملايين الأسر المصرية، فالواحدة يعمل عليها من 2 إلى 3 أفراد بنظام الورديات، والظروف الاقتصادية التي يمر بها الجانى والمجني عليه تتسبب في ارتكاب جريمة قتل سائق “التوك توك”، خاصة أن الطرفين من فئة الشباب والعائلين، وهذا ليس معناه التشجيع على ارتكابها ولكن لابد من مناقشة الأسباب حتى نتمكن من علاجها.
وأوضح أنه مع انحدار الفئة المتوسطة وارتفاع الأسعار جعل المواطن أسهل مشروع يلجأ إليه هو شراء توك توك، وعلى الجانب الآخر يتعرض الجاني أيضًا لضوائق مالية وعدم القدرة على تلبية متطلبات الأسرة، وتسريح للعمالة مما يدفعه للتفكير في سرقة “توك توك” لاعتقاده سهولة الأمر.
وتابع: نظرًا لطبيعة سير التوك توك في الشوارع الهادئة والمنقطعة فإنها تجعل صاحبها مطمعًا لعاطل أو عامل يتخذ قرارًا مفاجئًا بارتكابها لاحتياجه للأموال.
وأشار إلى أن هذه الجريمة تقع على “التوك توك” نفسه وليس الضحية، بمعنى أن الهدف هو سرقة المركبة والأموال والهاتف المحمول وليس القتل، مما يجعله يرتكب عدة جرائم من سرقة بالإكراه إلى قتل.
وأضاف أن الظروف النفسية التي يقع فيها الشباب والجناة من مرتكبي هذه الجريمة تمثل عاملًا مهمًا، لوجود نسبة منهم من مدمني البودرة والآيس، تجعلهم مغيبين وقت ارتكاب الجريمة.
ورأى أن الظروف الاجتماعية من غياب للقيم والمبادئ والأخلاق وسوء التربية تسهم في ارتكابها، حيث تجعل القاتل شخصًا بلا وعي أو ضمير، يقتل من أجل الحصول على توك توك، ثم يغير ملامحه ويبيعه مرة أخرى، أو يفككه ويبيعه على أنه قطع غيار، مضيفًا أنها كلها أسباب رصدت على أرض الواقع ولا توجد رقابة.
وتطرق إلى أن معدل ارتكاب جريمة سائق التوك توك تزايدت منذ التعويم خاصة مع ارتفاع الأسعار في عام 2022، ولكن ليس جميعها “قتل”، بل انقسمت إلى سرقة، وسرقة بالإكراه، وشروع في قتل، وقتل.
وتابع: ليست كل الحالات التي تحدث تنشر أخبارها، فالأمر مرتبط بوجود صحفي واهتمامه بالحوادث، وكذلك إبلاغ الأهالي لأن محافظات الصعيد أغلبها لا يبلغ عند وقوع الجرائم، وضرب مثالًا بجريمتين وقعتا في مدينة زفتى بالغربية، في نفس يوم المكالمة الهاتفية معنا وقبلهما بيوم في مدينة المحلة، ولم تُنشر حولها أخبار.
وفسر تصدر القاهرة معدلات الجريمة –وفقًا للتحليل- بأنها تحظى باهتمام إعلامي عكس المناطق النائية والقرى، والتي تحدث بها هذه الجريمة يوميًا بتصنيفاتها القانونية.
وعن سيناريو الحوادث التي تقع، لفت عبده إلى أن السيناريو واحد ومتكرر حيث يستقطب سائق التوك توك من صغار السن إلى منطقة هادئة ثم يقاوم الضحية فيقتل، وتسرق مركبته، وأجرة التوصيلة تجعل السائق يفرح بالمشوار رغم خطورته.
ضحايا 3 عجلات
وبالعودة للنتائج وجدنا تشابه جرائم قتل سائقي التوك توك بدافع السرقة خلال فترة التحليل –وفقًا للنتائج- بأن أهالي الضحايا حرروا محاضر غياب للسائقين قبل اكتشاف الجرائم، ومنها وقائع ظلت شهرًا حتى عثروا على الجثة.
وتبدأ أولى خيوط معرفة ارتكاب جريمة قتل سائقي التوك توك، بالعثور على الجثمان أو إنقاذ بعض الضحايا من الموت، ليساعد ذلك أجهزة البحث الجنائي في كشف ملابسات الجرائم وضبط الجناة.
من جانبه، أوضح أحد المصادر الأمنية، أن أجهزة البحث الجنائي تبذل جهودها لحل لغز الجرائم التي ترتكب في حق سائق التوك توك، منذ إبلاغ الأهالي بغيابه وحتى العثور على جثمانه، ويساعدها في كشف الجناة وملابسات الحادث كاميرات المراقبة الموجودة في الطرق والمحال التجارية والمناطق السكنية.
ولفت إلى أن كل جريمة لها ملابساتها وظروفها الخاصة، فهناك جرائم كشفت بسبب وجود أجهزة تتبع موجودة داخل التوك توك المسروق وضعه السائق قبل الواقعة.
وأشار إلى أن أغلب الجناة يتركون وراءهم خيوطًا في مسرح الجريمة تسهم في حل اللغز والكشف عنهم، إضافة إلى تضييق البحث عليهم وشهادة الشهود.
سهولة البيع
لاحظ إسماعيل –تاجر- أن التوك توك المعروض عليه للبيع ليس معه أوراق تثبت ملكيته، واشتبه في سلوك البائع الذي ظهرت عليه علامات التوتر وإدمان المخدرات، فاستغل الأمر وعرض على البائع 1200 جنيه وتذكرة هيروين، وكانت المفاجأة أنه وافق، فتأكد أن المركبة من حصيلة عملية سرقة، وهذه إحدى نماذج بيع توك توك لمشترٍ من سيئي النية بمحافظة الجيزة في الجرائم التي ارتكبت خلال 30 شهرًا.
ورغم أن التحقيقات والقضايا التي رصدها البحث، لم تتطرق جميعها إلى مشتري التوك توك، ولكن هناك بعض النتائج التي وجدناها من التحليل أظهرت 47 متهمًا في 9 محافظات (الجيزة، القاهرة، الشرقية، الدقهلية، كفرالشيخ، دمياط، البحيرة، الإسكندرية، القليوبية)، تصدرتها الجيزة وتزيلتها البحيرة.
ورصد البحث حالات تزوير لأوراق ملكية التوك توك المسروق، وإعادة بيعه من التاجر لمشترين آخرين لا يعلمون شيئًا عن الجريمة، وساعدهم في ذلك عدم وجود تراخيص لتلك المركبات، وهناك من استخدمه كقطع غيار لمركبات أخرى، كما ساهم تجار آخرون في كشف الجريمة بعدما أبلغوا الشرطة عن وجود توك توك بدون أوراق معروض عليهم للبيع.
وبالرجوع إلى أحدث تقرير عن تراخيص المركبات الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2022، وجدنا أن أعداد التوك توك المرخص بلغت 219.9 ألف، في ظل أن الأعداد غير المرخصة الموجودة في مصر بلغت 5.4 مليون مركبة، وفقًا لتصريح من رئيس رابطة مالكي التوك توك.
إنذار خطر
ولفت رئيس الرابطة، إلى أنهم بدأوا رصد الأعداد الموجودة في مصر منذ عام 2014 وحتى 2022، وما قبل ذلك لم يخضع للرصد، مستخدمين أدوات رصد تقديرية، لافتًا إلى أن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ووزارة التنمية المحلية لم يستطعا حصر الأرقام الموجودة على أرض الواقع، وضرب مثالًا بوجود 70 ألف توك توك بمدينة المحلة في محافظة الغربية.
وبلغ إجمالي عدد مركبات “التوك توك” الموجودة (مرخصة وغير مرخصة)، في مصر 5 ملايين و619 ألفًا و900 مركبة، وبحساب أنه يعمل عليها سائق واحد، وجدنا خطر هذه الجريمة يهدد فردا (سائق) من بين كل 18 مواطنًا في أي لحظة، وذلك بعد القسمة على عدد السكان 104 ملايين نسمة.
الناجون من الموت
لم يصدق هشام أنه ما زال على قيد الحياة بعدما كان في عداد الموتى، عقب تعرضه للاعتداء بالضرب والإصابة بشفرة موس من إحدى لصوص سرقة مركبات التوك توك، أثناء توصيله لمنطقة أوسيم بمحافظة الجيزة، ولكن استغاثته جمعت الأهالي الذي أنقذوه ونقلوه للمستشفى، مع إبلاغ الشرطة، ليكون إحدى الناجين بعاهة مستديمة من جريمة قتل سائقي “التوك توك” بإجمالي 36 ناجيًا من الموت بنسبة 23% من إجمالي الجرائم المرصودة خلال فترة التحليل، وسجل فيها عام 2023 نسبة 6% نجاة.
القصاص
خرج القاضي من غرفة المداولة ليعلن حكم المحكمة بالإعدام شنقًا على المتهم بقتل سائق “التوك توك” في القضية رقم 22373 لعام 2021 جنايات الزقازيق، بعد الإطلاع على جميع الأوراق، ليسدل الستار على هذه القضية وقضايا أخرى بصدور 27 حكمًا بالإعدام على منفذي تلك الجريمة، خلال فترة التحليل من إجمالي 56 حكمًا بنسبة 48% من إجمالي الأحكام الصادرة.
وهنا كشف البحث أن محكمة جنايات الزقازيق صدر عنها أكثر الأحكام القضائية في قضايا قتل سائقي مركبات التوك توك بدافع السرقة خلال 30 شهرًا، بإجمالي 15 حكمًا قضائيًا بنسبة 27%.
وشرح محمود الحديدي، الخبير القانوني، التكييف القانوني للجرائم التي تقع في حق سائق التوك توك، بأن لها 5 توصيفات قانونية، وهي: جرائم سرقة وسرقة بالإكراه وشروع في قتل، وسرقة بالإكراه مقرونة بجريمة قتل، وضرب مفضٍ إلى الموت، والقاضي يكوّن عقيدته وفقًا لما يراه من أوراق، وما استخلصه من دلائل وبراهين في القضية.
وأشار الحديدي إلى أن القاضي ملزم بتطبيق القانون ويحكم طبقًا لنصوصه التي وضعها المُشرّع، كما أن المحكمة تستخلص من أحداث الجريمة أن تحكم ما بين الحدين الأدنى والأقصى لها، أو الرأفة وفقًا لما يراه بأن يبدل عقوبة الإعدام بالمؤبد، أو المؤبد بالسجن المشدد.
وأوضح أن التوصيف القانوني لجريمة سرقة بالإكراه مقرونة بجريمة قتل عقوبتها الإعدام، لأن القانون يعاقب في تلك الحالة على الأشد، وفقًا لما نصت عليه المادة 234 من قانون العقوبات: “على أنه من قتل نفسًا عمدًا من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالسجن المؤبد أو المشدد، ومع ذلك يحكم على فاعل هذه الجناية بالإعدام إذا تقدمتها أو اقترنت بها أو تلتها جناية أخرى، وأما إذا كان القصد منها التأهب لفعل جنحة أو تسهيلها أو ارتكابها بالفعل أو مساعدة مرتكبيها أو شركائهم على الهرب أو التخلص من العقوبة فيحكم بالإعدام أو بالسجن المؤبد وتكون العقوبة الإعدام إذا ارتكبت الجريمة تنفيذا لغرض إرهابي”.
وبخصوص عقوبة السرقة بالإكراه فهي السجن المشدد ويصل إلى المؤبد، وفقًا لما نصت عليه المادة 314 من قانون العقوبات: “يعاقب بالسجن المشدد من ارتكب سرقة بالإكراه فإذا ترك الإكراه أثر جروح تكون العقوبة السجن المؤبد أو المشدد”.
ولفت إلى أن التوصيف القانونى للجريمة لو كان ضربًا مفضيًا إلى موت مقترنًا بجريمة سرقة تكون العقوبة المؤبد أو المشدد، وهنا القاضي يحكم فيها على حسب ما استخلصه من أوراق لتكوين عقيدته، وحسب ظروف الدعوى الجنائية، وتصبح العقوبة المقررة قانونًا إما بالحد الأدنى أو الأقصى للعقوبة.
وضرب مثالًا بأنه لو شخص خطط للسرقة وحاز على سلاح أبيض من أجل استخدامه في مساعدته بالجريمة، وبيّت النية وعقد العزم إذا تعرض له المجني عليه سيقوم بقتله، هنا العقوبة إعدام لكونه قتل عمد مقترنا بسرقة ما يعد ظرفا مشددا.
وتابع: أما بخصوص الضرب المفضي للموت فإذا احتاز المتهم سلاحا وذهب للسرقة، ولم يستخدمه، ولكن حاول المجني عليه الاعتداء عليه، فاستخرج الجانى السلاح الموجود بحيازته وفي نيته عدم قتله ولكن الدفاع عن نفسه، وضربه فتسبب في إنهاء حياته، تصبح الجريمة هنا ليست جريمة قتل عمد ولكن ضربًا مفضيًا للموت والقاضي يحكم فيها بالحد الأدنى للعقوبة.
زيادات جنونية واهتمام من المصريين
ورغم تعالي أصوات زغاريد أهل القتيل في كل القصص التى رصدناها أعلاه بعد قصاص العدالة، لم يسدل الستار بعد على تلك الجريمة التي تمثل الصدفة عاملًا في اختيار ضحيتها، وأعدادها مرشحة للزيادة، خاصة بعد ارتفاع أسعار التوك توك 3 أضعاف منذ تعويم 2022، حيث ارتفع من 28 ألف جنيه في 2020 حتى 90 ألفًا في 2022 ثم إلى 135 ألفًا في 2023.
وبالبحث على جوجل وجدنا ارتفاع معدلات اهتمامات المصريين اليومية عن أسعار تلك المركبات الجديدة والمستعملة من 40% في 2021 حتى وصل إلى 1250% في منتصف 2023، ما يتطلب إعادة النظر في منظومة عمل التوك توك.
وفي هذا السياق، أوضح رئيس رابطة مالكي التوك توك، أنهم بدأوا منذ عام 2014 بالمطالبة بمنع استيراد التوك توك وتقنين أوضاع أصحاب تلك المركبات بالإحلال أو ترخيص مركبات التوك توك ووضع شروط للسائقين وإصدار رخص لهم، مشيرًا إلى أن عدم تفعيل القرارات التي صدرت بخصوص تقنين وضع المركبة ذات الثلاث عجلات، ساهم في انتشارها.
وأضاف أن تراخيص مركبات التوك توك في المرور متوقفة منذ عام 2018 بقرار من رئيس مجلس الوزراء، مما تسبب في غياب الرقابة لعدم وجود لوحات معدنية بأرقام، أو خطوط سير، ورخص قيادة للسائق وتسيير للمركبات، وما يحدث الآن عبارة تراخيص من الوحدات المحلية تكلفتها من 5 إلى 6 آلاف جنيه سنويًا مما يمثل عبئًا ماديًا على السائقين فيبتعدون عنها.
ولفت إلى تضارب القرارات المتعلقة بمنظومة عمل التوك توك، حيث صدر قرار برقم 533 لسنة 2021 من وزير التجارة والصناعة في 2021 بمنع استيراده، بهدف إحلاله بوسيلة نقل آمنة، ولكن حتى الآن توجد مركبات جديدة في الأسواق، فشركة “غبور” تعمل على تجميع مكونات التوك توك، مع وجود مصانع مغذية للمرايات والإشارات والإكسسوارات.
وأشار إلى أن رئيس مجلس الوزراء أصدر قرارًا يحمل رقم 139 لسنة 2021 ينص على إلغاء التوك توك وإحلاله بمركبات “الميني فان” التى تعمل بالغاز الطبيعي، أو التوك توك الكهربائي ذات الشكل الحضاري، ولم ينفذ الإحلال حتى الآن وتوقفت المبادرة.
روشتة النجاة
وقال إن مشاكل التوك توك كثيرة وهو منتشر في كل مكان وحتى وضع منظومة لإحلاله ولنتمكن من منع جرائمه، نطالب باتخاذ مجموعة إجراءات تتعلق بالمركبة والسائق، فيما يخص السائق: لابد من استخراج رخصة قيادة له تتطلب فيش وتشبيه واستعلام أمني واختبار قيادة، وألا يقل عمره عن 18 عامًا من أجل القضاء على قيادة الأطفال.
وعن المركبة، فطالب بفتح الباب لتراخيصها في المرور، ووجود خطوط سير واضحة لكل مركبة ومعلنة على التوك توك، واتخاذ إجراءات رادعة لمن يخالف الشروط.
وطالب بألا تزيد رسوم التراخيص السنوية على ألف جنيه، مما يسهم في الإقبال عليها من السائقين، وإدخال ما يزيد على 54 مليار جنيه سنويًا لخزينة الدولة من التوك توك.
على صعيد آخر، قالت الدكتورة سهير عبدالمنعم أستاذ قانون جنائي بالمركز القومي للبحوث الجنائية، إن سائقي “التوك توك” ينظر لهم دائمًا على أنهم جناة، وهذا البحث لفت النظر إلى أنهم يقعون ضحايا أيضًا، مما يتطلب اتخاذ إجراءات لحمايتهم نظرًا لأنها مشكلة لها بعد اجتماعي واقتصادي.
وتابعت: كلما زادت المصاعب الاقتصادية تسببت في ارتفاع الجريمة، ونظرًا لأن فرص العمل نصفها موجود في الشارع فلابد من حماية من يعملون بها، وهنا سائقي التوك توك تنطبق عليهم نفس الظروف.
وأرجعت السبب في ارتكاب جريمة قتل سائق التوك توك بدافع السرقة إلى سهولتها، لأن التوك توك وسيلة نقل غير مرخصة، ولا توجد حماية لسائقه –حسب تعبيرها.
ولفتت إلى أهمية وجود ترخيص للتوك توك ورخص قيادة لسائقه، من أجل الوقاية من هذه الجريمة، مما يسهم في الحد بنسبة 75% من جرائم السائقين كضحايا أو جناة.
وتطرقت إلى أن سرقة دراجة بخارية “موتوسيكل” أصعب من سرقة مركبة توك توك، وذلك لأن الأولى مرخصة ويسهل تتبعها، أما الثانية فتعديلات بسيطة ستغير ملامحها.
وأشارت إلى أن المدن الكبيرة تحتل النسب الأكبر في ارتكاب الجرائم نظرًا لأن المواطنين لا يعرفون بعضهم، عكس القرى، فقاطنوها يعرفون بعضهم البعض جيدًا.
وأكدت أن كاميرات المراقبة تعمل بشكل كبير في الحد من ارتكاب الجرائم ومساعدة الأجهزة الأمنية على كشفها، مطالبة بزيادتها ووضعها في كل المناطق وبالقرى والطرق النائية والمتطرفة.
وأشارت إلى أن الوضع الراهن يتطلب التكيف مع ظروف العمل التي أصبحت موجودة في الشارع، والحل ليس منعها ولكن إنشاء روابط لكل مجتمع محلي أو جمعية أهلية تحت حماية الشرطة.
وطالبت بتفعيل لجان حماية الطفولة من أجل القضاء على عمالة الأطفال على التوك توك ورصد المخاطر التي تواجههم.
وتطرقت إلى دور الإعلام على كل المستويات في التوعية بهذه المشكلات خاصة في ظل المتلاحقات السريعة التي تحض على العنف، وكذا تفعيل دور المحليات ومؤسسات التنفيذ في الحماية من خطر هذه الظاهرة.