أظهر الاقتصاد المصرى مرونة كبيرة فى مواجهة صدمات أسعار القمح الناتجة عن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية من خلال 4 خطوات اتخذتها الحكومة، وهى الاستمرار فى تطبيق سياسات مالية واقتصادية ذكية، وتنويع مصادر استيراده، إضافة إلى اشتراك السلطات فى تعاون تمويلى بناء مع عدد من المؤسسات الكبرى لتمويل وارداته، والتفاوض مع الشركات الخاصة للتحوط من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، حسبما أفاد تقرير حديث صادر عن مكتب الشئون الزراعية الأمريكية بالقاهرة.
ويرى التقرير الصادر بعنوان: «الانخفاض فى واردات القمح الأوكرانى دفعت مصر لتنويع مورديها»، أنه مع ذلك، فإن الحل طويل الأجل للتحديات التى خلفتها الحرب على محصول القمح وسعره هو ضمان مستويات مستدامة من الاستثمار فى زراعته، وهو ما تنفذه الحكومة والقطاع الخاص بالفعل.
وأثر الغزو الروسى لأوكرانيا بصورة سلبية على الاقتصاد العالمي، وتأثرت مصر أيضًا من تبعاته التى اتضحت فى تضخم أسعار القمح، فضلًا عن ارتفاع أسعار السلع الأخرى، والتى ساهمت فى صعود معدل التضخم فى البلاد، وإضافة عبء على ميزانية الدولة لتمويل فاتورة استيراد القمح المرتفعة بالفعل.
مستويات قياسية لأسعار القمح بعد الحرب
وقال التقرير إنه بعد أكثر من 100 يوم من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، قفزت أسعار القمح بنسبة %60 تقريبًا على مستوى العالم، لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ 14 عامًا، وتأثرت مصر مثل باقى دول العالم بآثار الحرب، خاصة أن %82 من وارداتها من هذا المحصول الاستراتيجى خلال الـ 5 السنوات الماضية كانت من روسيا وأوكرانيا.
وأكد مكتب الشئون الزراعية الأمريكية بالقاهرة، أن مصر تمكنت خلال الـ 3 أشهر الماضية من تأمين إمدادات ثابتة من هذا المحصول من أسواق متنوعة لبرنامجها الخاص بدعم الخبز من خلال المناقصات الدولية، مضيفاً أنه حتى 18 يونيو الماضي، اشترت الحكومة 4.1 مليون طن من القمح من هدفها المتوقع البالغ 5 إلى 6 ملايين طن هذا الموسم، وتابع أنه لم يلاحظ أى نقص فى هذا المحصول أو بالدقيق أو الخبز فى المخابز أو الأسواق المحلية أو فى متاجر البيع بالتجزئة التجارية.
وقال إن استكشاف أسواق جديدة لشراء القمح يُمثل خيارًا قابلًا للتطبيق للمشتريات العامة والخاصة رغم ارتفاع الأسعار، منوهًا بأنه فى 5 يونيو الماضي، استقبلت مصر أول شحنة من القمح الهندى اشتراها القطاع الخاص.
وأضاف أن روسيا وأوكرانيا تمثلان ما يقرب من %30 من صادرات القمح العالمية، ومن الموردين الرئيسيين له لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وأشار إلى أن الغزو الروسى لأوكرانيا عطل التجارة الدولية للقمح بلا هوادة، ما أثر بشدة على الاقتصاد العالمى الذى كان يتحسن بقوة من تبعات جائحة COVID-19، لكن كان زيادة سعر هذا المحصول الاستراتيجى لمستويات قياسية النتيجة الرئيسية للحرب، ولم تكن مصر معزولة عن هذه الأحداث الكارثية التى أثرت بالفعل بشكل كبير على وارداتها من القمح الأوكراني.
واردات القمح فى الـ5 سنوات الماضية
وتشير بيانات الشئون الزراعية الأمريكية إلى بلوغ واردات مصر من القمح على مدى السنوات الخمس الماضية 62.6 مليون طن، لافتة إلى استحواذ كل من روسيا وأوكرانيا على %82 من تلك الكميات، موزعة بين %59.7 من موسكو و%22.3 من كييف.
وعزا التقرير سبب اعتماد القاهرة على القمح الروسى والأوكراني، بسبب الأسعار التنافسية، وانخفاض تكاليف الشحن، وقلة الوقت للوصول إلى الموانئ المصرية مقارنة بالمقاصد الأخرى.
واستحوذ القمح المستورد من هاتين الدولتين خلال العام الماضى على ما يقرب من %77 من إجمالى وارداتنا المحلية من هذا المحصول، شكلت واردات القطاع الخاص %60 من الحجم الإجمالي، و%40 واردات حكومية، وفقًا للتقرير.
وقال إن حجم واردات مصر من هذا المحصول تراجع خلال الـ5 أشهر الأولى من العام الحالى إلى 3.32 مليون طن، مقابل 4.35 مليون طن فى الفترة المقابلة من عام 2021، مرجعاً ذلك الانخفاض إلى الحرب الروسية وصعود أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة وزيادة تقلبات السوق.
ونوه بأن أكبر الموردين الأجانب للسوق المصرية من هذا المحصول خلال الفترة من يناير إلى مايو الماضيين كانت روسيا بواقع 1.66 مليون طن، ورومانيا بنحو 780 ألف، وأوكرانيا 518 ألف طن، وألمانيا 118 ألف طن، فضلًا عن بلدان فرنسا وليتوانيا والهند والبرازيل وبلغاريا وأستراليا.
وعلى الجانب الآخر تُمثل أكبر الموردين للسوق المصرية فى فترة المقارنة المقابلة من العام الماضى فى روسيا التى وردت كميات بلغت 2.4 مليون طن، وأوكرانيا بواقع 870 ألف طن، ورومانيا نحو 567 ألف طن، وأستراليا 295 ألف طن.
مشتريات الهيئة العامة للسلع التموينية
ونوه التقرير إلى أن مشتريات الهيئة العامة للسلع التموينية، التى تنفذ مناقصات القمح لبرنامج دعم الخبز فى مصر، استحوذت على %28 من إجمالى مشترياته فى مصر خلال أول 5 أشهر من العام الحالي، فى حين بلغت مشتريات القطاع الخاص من هذا المحصول النسبة المتبقية وهى %72.
واعتبارًا من الربع الأخير من عام 2021، صعدت أسعار القمح بمتوسط 100 دولار للطن، وترجم ذلك الارتفاع فى صورة تكلفة إضافية تبلغ حوالى 760 مليونًا فى الميزانية الحكومية المخصصة لاستيراد القمح لبرنامج دعم الخبز فى العام المالى المنتهى فى يونيو 2022.
وقال التقرير إن الهيئة اضطرت لإلغاء مناقصتين أجرتهما فى 24 و28 فبراير الماضيين، بسبب العروض المحدودة، والأسعار المرتفعة للغاية التى عرضها التجار للقمح الشتوى الأحمر الفرنسى والأمريكي، مضيفًا أن التجار لم يعرضوا أى قمح من البحر الأسود خلال هاتين المناقصتين وسط الصراع المستمر بين روسيا وأوكرانيا، الأمر الذى أدى إلى حالة من عدم اليقين بشأن إمدادات البحر الأسود خلال تلك الفترة.
وأضاف أن الهيئة تقدمت فى مناقصة أخرى خلال منتصف أبريل الماضى لشراء شحنات قمح تصل فى الفترة ما بين 20 وحتى 31 مايو الماضيين، مشيرًا إلى تقدم 9 عروض من 7 شركات أوروبية 6، منها فرنسي، وعرض واحد من روسيا، وآخر من ألمانيا وثالث من بلغاريا.
وحسبما أورد التقرير، اشترت الهيئة من تلك المناقصة 350 ألف طن إجمالًا (240 ألف طن من القمح الفرنسي، و60 ألف طن من القمح الروسي، و50 ألف طن من القمح البلغاري).
وبلغ متوسط سعر التكلفة والشحن للطن الواحد خلال تلك الصفقة ما يقرب من 484.50 دولار، بزيادة حوالى 43.1 % عما دفعته الهيئة فى مناقصة 17 فبراير الماضى -قبل اندلاع الحرب.
ولفت إلى تصريحات وزير المالية محمد معيط، منتصف يونيو الماضي، حول أن صعود أسعار القمح العالمية من شأنه أن يثقل كاهل الموازنة العامة للدولة بمبلغ إضافى قدره 1.5 مليار دولار فى العام المالى الحالى 2022/ 2023، كما يثقل كاهل القطاع الخاص بمبلغ 1.5 مليار دولار إضافية.
وقال مكتب الشئون الزراعية الأمريكية، إن المرسوم الذى أصدرته وزيرة التجارة والصناعة، نيفين جامع، فى 23 مايو الماضى برفع مستويات الرطوبة المقبولة فى القمح المستورد من %13.5 إلى %14 لمدة عام واحد، شجع على المزيد من العروض التجارية التى تقدمت فى أحدث مناقصة لهيئة السلع التموينية التى أجريت مطلع يونيو الماضي.
وأفاد التقرير بأن الهيئة اشترت فى تلك المناقصة الأخيرة 465 ألف طن من القمح من السوق الدولية، بعد تلقيها 19 عرضًا من مختلف المناشئ، موضحًا أن الكميات تمثلت فى 175 ألف طن من روسيا، و240 ألفًا من رومانيا، و50 ألفًا من بلغاريا، وتابع أن متوسط سعر التكلفة والشحن للطن الواحد بلغ 480 دولارًا.
وبحسب التقرير، تعمل الهيئة على تنويع مصادر القمح، وأضافت الهند مؤخرًا كمصدر مقبول للاستيراد منها، بجانب 16 أصلًا معتمدًا آخر لديها للمشاركة فى مناقصاتها الدولية، وهى الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وفرنسا، وأستراليا، وألمانيا، والأرجنتين، وروسيا، وأوكرانيا، ورومانيا، وبولندا، وبلغاريا، وصربيا، والمجر، وباراجواي، وكازاخستان، إضافة إلى ذلك تُقيم الإدارة المركزية للحجر الزراعى حاليًا كلا من المكسيك وباكستان كمصادر لواردات القمح.
الصادرات
وأكد التقرير أن الحكومة المصرية اتخذت خلال الأشهر الأخيرة عددًا من الإجراءات لضمان توافر المواد الغذائية الأساسية فى السوق المحلية والقدرة على تحمل تكلفتها، لافتًا إلى قرار وزارة التجارة والصناعة الصادر فى 10 مارس الماضى بحظر تصدير القمح والفول السودانى والعدس والمكرونة والقمح والذرة وجميع أنواع دقيق القمح والزيوت لمدة 3 أشهر لضمان إمدادات كافية منها فى السوق المحلية ومنع ارتفاع الأسعار.
وفى 16 مايو الماضي، استبعدت الوزارة أيضًا أحد أنواع المكرونة وهو «الإسباجيتى» من قرار حظر التصدير بعد عدة طلبات من القطاع الصناعى المحلي، وأعرب المجلس المصرى لتصدير المواد الغذائية عن رضاه بالقرار، خاصة أن الطاقات الإنتاجية منها تغطى السوق المحلية بالكامل، وبإمكانها أن تلبى طلبات التصدير المتزايدة من الدول العربية والأفريقية المجاورة.
وفى مطلع يونيو الماضي، استبعدت أيضًا الوزارة دقيق سميد القمح من قرار حظر التصدير بشرط السماح بالتصدير فقط للمصانع الثلاثة فى مصر التى تنتج هذا النوع من الدقيق، وفى 8 من الشهر نفسه، مددت قرار حظر التصدير لمدة 3 أشهر أخرى، وستسمح الوزارة بالتصدير للكميات الزائدة على احتياجات السوق المحلية من هذه السلع الأساسية، ولكن فقط بعد موافقة وزارة التموين.
المخزونات ومشتريات الحصاد المحلى
وقال التقرير إنه خلال عدة سنوات، رفعت مصر قدراتها لتخزين القمح من 1.6 مليون طن إلى 5.2 مليون، ونتيجة ذلك، ازداد مخزونها الاستراتيجى من 3 إلى 6 أشهر.
وأضاف أن هذا الاحتياطى يُمكن الحكومة من التعامل مع أى ارتفاع فى أسعار السلع العالمية خاصة أنه يؤمن الطلب على الغذاء من قبل السوق المصرية حتى تستأنف الأسعار مسارها التنازلى.
وتابع أن حجم احتياطيات القمح الحكومية لبرنامج دعم الخبز تبلغ حاليًا ما يقرب من 6 أشهر، مع دخول كميات جديدة من الموسم الحالى الحصاد المحلى الذى بدأ أول أبريل الماضي، ويمتد حتى نهاية أغسطس المقبل، مشيرًا إلى أن الحكومة تستهدف ما يتراوح بين 5-6 مليون طن من المزارعين هذا الموسم.
ونوه بأن احتياطى القمح فى مصر لبرنامج دعم الخبز سيستمر حتى نهاية يناير 2023، لافتًا إلى شراء الحكومة حتى 18 يونيو الماضى 4.1 مليون طن منه من المزارعين المحليين تشمل 200 ألف طن مخصصة للبذور ومصانع المكرونة، وتابع أنه تم شراء غالبية المحصول خلال شهر مايو الماضي.
ولضمان تحقيق هدف شراء القمح، أعلنت الحكومة عن مجموعة من الحوافز، وفرضت عددًا من القيود على تجارة هذا المحصول وحركته عبر المحافظات.
وقال إن الظروف المناخية هذا الموسم كانت مناسبة جدًا لإنتاج محصول القمح، إلى جانب تنفيذ سلسلة من الإجراءات كالتوسع فى عدد من البذور المعتمدة الموزعة على المزارعين، وتحديد وقت البذر المثالي، ما زود مساحاته المزروعة، إلى أكثر من 520 ألف هكتار (الهكتار يعادل 2.4700 فدان).
ويرى التقرير أن هذه السياسات أسهمت بشكل كبير فى زيادة إنتاجية القمح لكل وحدة مساحة، وكذلك الحقول الإرشادية التى تعرض أصنافًا وممارسات زراعية جيدة وتقنيات رى جديدة فى زيادة الغلات، بجانب الاستفادة القصوى من كل وحدة من المياه المستخدمة فى زراعته.