رغم ظروف كورونا وانكماش الاقتصاد وأوجاع تصحيح العشوائيات واستفحال التقول بنظرية المؤامرة ونهاية العالم، وتطور السوشيال ميديا فى التلاعب بكل ما تقدم فى الوعى الجمعى العالمى..
فإننى من المهتمين بصناعة الغد، الذين يغرسون فسيلة (غصن صغير) ولو قامت الساعة!
وفسيلة مقال اليوم هى تطوير المواهب… كبداية حقيقية لتأسيس صناعة عربية حقيقية للإبداع.
قد تكون لدينا مواهب عربية لأسباب مختلفة، ومراكز اقليمية باسم الإبداع، ولكن المبدعين العرب الحقيقيين بأوطانهم، حالات فردية أو ثمرة جهود ذاتية مشتركة، وليسوا نتاج صناعة رسمية محترفة، تعى قيمة وخطورة رأس المال الفكرى وحتمية تطوير المواهب طبقا لمعايير واسس وضوابط، تثمر إنتاجًا مُبدعًا حقيقيًا يضيف قيمة، لمحيطه ومجاله والوعى الجمعى لمجتمعه تطوير ونمو واستقرار بلده.
من أخطر الصناعات التى تؤثر فى مصير الأمم هى صناعة الإبداع، كمنحة ربانية لترقية المواهب الفطرية للبشر، وربطها بفكرة إعمار الكون، لتقديم حلول لمشكلات قائمة أو رؤى إمكانيات حياة أفضل، فليس كل موهوب مبدعاً ولكن كل مبدع موهوب تم الاستثمار فى صنعه، لتحقيق قيمة مضافة لمجتمعه وبلده.
قد يكون من المستغرب أو المستهجن الآن مناقشة تطوير المواهب، فى ظل فرض العشوائيات الفنية وجودها مثلا، أو تألق التسطح الفكرى مؤخرًا، أو تحول التفزيع والدجل والرفض لفن واسلوب، أو تجاوز مبدأ الجمهور عاوز كده إلى دعونا نتلاعب بالجمهور أكسب! للأسف فإن منعدمى الموهبة ومتعاطيها وبلطجيتها وانصافها، تسللوا إلى العقل الباطن للمجتمع ووعيه الجمعى، تحت عنوان الموهوب المبدع، ونجحوا تدريجيا دون قصد أو عن قصد ممنهج، فى تدمير 20 سنة ماضية ومقبلة من الأجيال، فصادقوهم على سلبيات ما مضى، وعودوهم على التمرد والشك فى إيجابيات ما قد يأتى، ومواجهة الكل بحالة عدمية، لا تعى واقع الدنيا الآن أو مستقبلها المقبل!
ولكن حتى قيام الساعة، فلا مانع من دق الجرس واستنفار الاهتمام بتطوير المواهب! فإذا كانت الرمال ام الميكروشب، فالمواهب بذور الإبداع! وكما تمر الرمال بدورة تصنيع لتكون ميكروشب، فكذلك تطور صناعة المواهب حتميا لتثمر إبداعا حقيقيَّا، يتسم بالحداثة والرفعة والأصالة للمبدع ومجتمعه وبلده.
فالموهبة استعداد فطرى ينمو لدى الجميع، ولكنى اخص موهوبى التأثير فى الوعى الجمعى لأعضاء المجتمع، من فرسان الفكر والكلمة والموسيقى والأداء والتشكيليين والرياضيين وغيرهم.
المنهجية الحالية الشائعة عربيا للاستثمار فى الفن مثلا، تتمحور بالعمل على الشخص وليس الموهبة، لتحويله لظاهرة أو ترند يتربح منها لدورة زمنية تستهلكه، لحين إطلاق ترند جديد، دون قيمة مضافة حقيقية لصناعة الإبداع، والنتيجة؛ صناعة النجم، الذى قد لا يمت للموهبة أصلا بصلة، ولكن تحوله منهجية معينة يتضافر فيها علم التسويق مع الإعلام مع تطوير الذات، لخلق صورة ذهنية عامة تستغل وتستثمر حالة فراغ مجتمعى وتسطح ثقافى وضغوط عصرية، لتصدير مُسكنات لوعى جمعى مرهق.
ورغم انشغال هموم الأمة بقضايا الوجود والتطوير والديون والفروض، واعتبارها هذه المواهب ترفيهاً وتخفيفاً وتنفيساً، فإنها أصبحت النمل الأحمر الذى يرعى فى عقلنا الباطن، ليشكل ردود أفعالنا السلبية والمتدنية تجاه القائم والقادم.
وحتى لا نظلم الوضع الحالى أو طالبى الموهبة أو الموهوبين حقاً، فمعطيات تطوير المواهب وصناعة الإبداع تحتاج إلى بيئة حرة تعى قيمة وجودهما فى تطور المجتمع، مقابل تداعيات تحصين ثوابت الفكر وقداسة التراث! ليكون الاعتراف بالمواهب منهجا لتحويلهم إلى مبدعين وحمايتهم، بآليات تقنن صنعهم وتحمى منتجاتهم.
لن تتفتح المواهب أو يثمر الإبداع، دون تحديث وتكامل التعليم والثقافة والإعلام وتحييد الدين، كمربع يحتوى وتنمو بداخله الموهبة المبدعة حرة آمنة واعية، قابلة للنقد والتحسين والتأصيل.
غير أن أصالة مبدأ حرية الابداع الموازى لحرية الاعتقاد، يحتاج إلى التحفظ فى اعتماده مطلقاً، ويلزمه ضوابط ومعايير مجتمعية، حتى لا تتحول الحرية البناءة لفوضى هدامة.
تتعدد محاور تطوير المواهب من بيئة سامحة، موهوب بإستعداد فطرى، مخزون من الدهشة واستعداد للتعلم، منهجيات تطوير الموهبة، مُنتج جديد مصوغ بتفرد، ثم مُستقبل أو مستخدم للمُنتج، حيث يصلح كل محور منهم للاستثمار بذاته، وترتبط به صناعات تكميلية تجعل تطوير المواهب صناعة متكاملة.
هنا نفرق بين الاستثمار فى صناعة الظواهر الفنية خارج الموهبة دون أى قيمة مضافة، إلا الربح المادى والتلاعب بالوعى الجمعى، وبين الاستثمار فى تطوير المواهب الحقيقية، المُترجمة لفكر ومعنى ومحتوى، يتنوع شكل منتجاتها ويتعلق نجاح وجودها بالاتصال بالمُتلقى والتأثير فيه.
إحدى الاشكاليات العملية فى تطوير المواهب هى العلاقة بين منتجات الموهوب وبين وصولها لجمهوره أو المستفيدين بها، فكم من مبدعين توهجوا أصالة ونُدرة، ولم يصلوا فى حياتهم للجمهور أو نسيهم الزمن أو آفلت منتجاتهم، لخلل بتركيبهم الشخصى أو نمط حياتهم أو ضعف شبكات علاقاتهم أو عدم وعيهم بقيمتهم أو سجنهم داخل أو خارج شلل الصناعة، أو حصرهم لأنفسهم فى قالب الموهبة فقط دون استثمار فى تفجير ممنهج لإبداعهم!
من هنا كانت صعوبة الأمل فى صناعة حقيقية للإبداع، قبل مناقشة تطوير المواهب وبلورة أهم محاور نجاح الموهوب، خصوصا اكتشافه، إدارته، تصنيع موهبته، تسويق منتجاته، بناء صورته الذهنية عند الجمهور، وغيرها، كأحد العوامل الرئيسية فى تشكيل الوعى الجمعى والتأثير فيه.
وهو ما قد نناقشه فى فرصة أخرى بإذن الله!
* محامى وكاتب مصرى