مع تعدد خطوط التماس الساخنة، المتبقية عن الحرب العالمية الثانية، أو المستحدثة من بعد انتهاء الحرب الباردة عشية تسعينيات القرن الماضى، تأتى تركيا على رأس الجارات الثلاث غير العربيات فى الشرق الأوسط التى يمكن لتحركاتها الخارجية التسبب فى استئناف الحرب الباردة، ليس بالمنطقة فحسب، بل لأبعد منها.. نظراً لتوسع أنقرة فى المشاركة لحالات التوتر والحرب سواء فى شرقى السويس (العراق) أو شرق البحر المتوسط (سوريا وقبرص) وفى غرب البحر (ليبيا).. وما إلى ذلك من تدخلاتها فى الشئون الداخلية لمصر، ولشتى أنحاء المنطقة، دفعاً لإحياء مشروعها (المتأسلم).. علها تستعيد من خلاله رأس الجبل الجليدى (الخلافة) الذى اختفى قبل قرن من الزمان عند «الثقب الأسود»- الاستراتيجى- أعقاب الحرب العظمى، إلا أن المنطقة لا تزال تجاهد منذ ذلك التاريخ لتحرير نفسها من «التعصب الديني»، وبمقاومة شرسة من تركيا- بأقله- طوال العقد الأخير، حتى ولو اشتعلت المنطقة بأسرها.. فى إطار علاقات ظاهرها التوافق، وباطنها العداء.
إلى ذلك، وفى سياقه، تتزامن مباحثات هاتفية بين وزيرى الدفاع الأميركى والتركى 13 / 7 «بشأن المستجدات فى سوريا».. مع بدء تسليم روسيا الدفعتين الأولى والثانية من منظومة الصواريخ الاستراتيجية «s400» إلى تركيا فى 11/ 7، ما يصبح من غير المعلوم إزاء تحركات متضاربة لتركيا.. الوجهة التى تستهدفها بين كل من واشنطن وموسكو، وإلى أى مدى يمكنها الحفاظ على التوازن بينهما، من دون أن تتطور مناورات الحرب الباردة إلى مواجهات عسكرية، مباشرة أو بالوكالة، ذلك عبر مسارح العمليات المفتوحة السابق الإشارة إليها، خاصة على الساحة السورية- كأولوية- فشل فيها الدور المحورى لتركيا- من النيل للفرات- عن إدارة المعارضة لصالحها وضد النظام السورى، إذ تكسرت نصال الأتراك بعد انتصارات أولية منذ 2011، على صدى دخول إيران- بقوة- فى سوريا، وللمناطق المحاذية لتركيا، إلى دخول القوات الروسية سوريا نهاية سبتمبر 2015، وكذلك الأمر بالنسبة للقوات الأميركية فى المناطق الكردية السورية، وليس آخراً بإشراك الطيران الإسرائيلى فى الحرب السورية، إلا أن أخطر ما غامرت أنقرة إليه.. محاولتها عجم عود روسيا (ربما لصالح الأميركان) من خلال إسقاط مقاتلة روسية إلى اغتيال السفير الروسى فى أنقرة، ومن دون استثناء التبعات المترتبة إلى الآن عن محاولة الانقلاب التركية الفاشلة يوليو 2016، والدور الغامض الملتبس لكلا الدولتين العظميين فى اندلاعه أو دحره، إلخ.
إلا أن ما سبق من متغيرات دراماتيكية سواء للحفاظ على سوريا أو لتطويع تركيا، وما إليهما من تطورات، لا ترقى إلى مستوى التأثيرات المتوقعة عن إبرام صفقة الصواريخ s400 بين روسيا وتركيا، ليس فحسب بالنسبة للاستخدام التقنى (الرادارى) لهذه المنظومة التى توفر لمالكها ثروة من المعلومات.. يكشف من خلالها الكثير من نقاط الضعف لدى الآخر وهو ما يؤثر أيضًا على موازين القوة.. وإلى عمق التحولات الاستراتيجية التى قد تشهدها منطقة الشرق الأوسط، مما قد يبدل- بحسب المراقبين الجيوسياسيين- خريطة التحالفات والتوازنات التى بدا أن المنطقة قد استقرت عليها من بعد الحربين العالميتين الأخيرتين، وإلى ما يحمله ذلك (مثالاً) من بذور التفسخ داخل حلف شمال الأطلسى (الذى سبق له أن أحجم عن تلبية نداءات تركيا بعد التدخل الروسى فى سوريا 2015)، ربما ما دفع تركيا على إعادة النظر العميقة فى سياستها الخارجية، خاصة مع تعديل مقاربتها مع الحالة السورية، ما دعم من ثم علاقات أنقرة مع كل من موسكو وطهران، كنواة لتحالف جديد فى المنطقة يتجاوز فى أهميته الإقليمية والدولية، السياق العسكرى المحصن، ما ينذر- والأمر كذلك على هذا النحو من السيولة الاستراتيجية- بجولات عسكرية ودبلوماسية استباقية لن يغيب خلالها عن تركيا.. الاستمرار فى اللعب بالنار.. لعل ذراعها القاصرة أن تطال- بلا جدوى- طموحها البعيد.