من بعد ثمانين عامًا تنقص سنتين على إعلان قيام تركيا «الجمهورية».. عقب سقوط دولة «الخلافة» العثمانية، التى باشرت لنحو خمسة قرون خلت قيادة الوحدات السياسية لما كانت تسمى بـ«المسألة الشرقية»، شاع خلالها التخلف فى بلدانها عبر سياسة التكايا والدراويش.. إلخ، قبل بناء «الذئب الأغبر».. للأتاتوركية العثمانية 1924، إلى أن تفاجأت المنطقة فى 2002 بفوز حزب العدالة والتنمية (الذراع التركية للإخوان المسلمين).. حيث تولى «عبدالله جول» رئاسة الحكومة من بعد إخفاق «أردوغان» فى الحصول على مقعد نيابى إلا فى العام التالى، ليبرز منذئذ على الساحة المحلية والإقليمية- بوجهه البراجماتى- لنحو عقدين تاليين، التقى خلالهما بصنوه البراجماتى للجماعات الجهادية التى نصبته (مجازاً) خليفة للمسلمين، فرضه الاحتياج المتبادل بين (تتريك) المنطقة من جانب حزب العدالة والتنمية.. وبين (أخونتها) من جانب جماعات الإسلام السياسى، وفى إطار ظرفى مؤقت أغمضت عنه قوى الغرب طرفها، لأسبابها، فيما يسعى ثلاثتهم إلى استعمال الدين مطيَّة للقفز- كل من وجهة نظره- للهيمنة على المنطقة، ربما على غرار توظيف كل من إيران وإسرائيل الدين وسيلة لتحقيق مشاريعهم التوسعية، الأديان والمذاهب منهم براء، وليس أدلّ عللى ذلك- مثالاً- من أن تركيا على عكس العديد من الدول الإسلامية.. لا تعتبر المثلية الجنسية جريمة حين تسمح سلطاتها فى السنوات الأخيرة بتسيير مظاهرات من مئات الآلاف للمثليين، كما أن مواخير البغاء غير مجرمة، ويمارس مئات الآلاف الممارسات الزوجية مع بعضهم البعض، دون وجودها كرابط شرعى، ومع ذلك لا يرعوى الرئيس التركي- تحت ستار الدين- عن التدخل بمختلف السبل غير المشروعة لنصرة فصائل المعارضة المتأسلمة فى كل من مصر وسوريا والعراق والسودان (من النيل للفرات)، وفى ليبيا مؤخراً، وما إلى ذلك فى شرق البحر المتوسط وشمال أفريقيا، وما بين دول الساحل والصحراء، من خلال عشرات القواعد العسكرية المنتشرة فى الشرق الأوسط وأفريقيا، ضمن سياسة التتريك والتغيير الديموجرافى، وإلى الحد الذى يصل بالرئاسة التركية لمنافسة أثرياء العالم من اليهود فى شراء ميناء بورسودان.
إلى ذلك السياق، كادت تركيا منذ أحداث الربيع العربى 2011 تستكمل الهيمنة على مجمل المشرق العربى، حيث باشرت دور مكوك الأزمات، لأسبابها، ولصالح قوى غربية وجماعات الإسلام السياسى، لولا سقوط التنظيم الإخوانى فى مصر 2013، إلى محاصرة النظام فى سوريا جلّ جماعات الإرهاب المتأسلمة منذ 2015، إلى سقوط حزب المؤتمر الوطنى الحاكم فى السودان مطلع العام الحالى، إلا من دأب تركيا على استمرار مخططاتها لوضع العصىّ فى دواليب الأنظمة العربية بغرض إسقاطها، ليس آخرها توقيع اتفاق أمنى – عسكرى مع حكومة «الوفاق»، وميليشياتها غير الشرعية فى غرب ليبيا.. لمواجهة الجيش الوطنى الليبى، وللالتفاف من جانب ليبيا على كل من مصر والسودان، فيما قد يقارب نشوب الحرب فيما بينهم، خاصة من بعد سقوط مدن استراتيجية بالساحل الغربى الليبى على أيدى ميليشيات حكومة الوفاق، وبدعم غير محدود من تركيا، بالقوات والسلاح والمرتزقة (نحو 17 ألف إرهابى من سوريا)، ناهيك عن تدخلات غير مفهومة أو مبررة من جانب إيطاليا، وأطراف أوروبية أخرى، لمصالحهم الذاتية، ما يؤدى إلى متغيرات دراماتيكية لمقتضيات الأمن القومى الإقليمى، وعلى النحو الذى يشرع الأبواب أمام المزيد من نزعات الهيمنة للمغامرات التركية فى العقد الأخير، تدفع قيادة الجيش الوطنى الليبى إلى إلغاء اتفاق الصخيرات ديسمبر 2015، الأمر الذى تعارضه كتصرفات أحادية الجانب.. كل من واشنطن وموسكو وبرلين والاتحاد الأوروبى، والأمم المتحدة التى ترحب بإيجابية مبادرة رئيس البرلمان الليبى لصالح حل الأزمة الليبية عن طريق التفاوض، ذلك فيما لا يزال السجال قائماً بين الجانبين المتصارعين فى ليبيا، وحلفائهما.
فى غضون ما سبق من سياق المغامرات العسكرية التركية، وبموازاتها، تطلق المعارضة فى تركيا حملة لتوحيد مواقف الأحزاب فى البرلمان التركى «لخدمة البلاد ونبذ الخلاف والعودة إلى نظام برلمانى قوى بدلاً من النظام الرئاسى الذى أظهر هشاشة واضحة فى إدارة شئون الدولة»، الأمر الذى قد يدفع الرئيس التركى لاحتواء المعارضة إلى استباقها من خلال إجراء انتخابات مبكرة، ما يضع تركيا بين شقي الرحى لمغامرات عسكرية خارجية.. ومعارك تشريعية فى الداخل.