ترقيع الهواء أم طرق الحديد؟

ترقيع الهواء أم طرق الحديد؟
محمد بكري

محمد بكري

6:45 ص, الأثنين, 6 سبتمبر 21

تتداول الأخبار بمصر أزمتى الهواء والأرض! ماسبيرو والحديد والصلب! الإعلام والصناعة! الوعى والأصول. الاثنان مديونياتهما بالمليارات والخسارة مكشوفة، الاثنان من أعصاب مصر فيما بعد 1952، ورمزان لعهود من النمو الثقافى والدرامى وتشكيل الوعى الجمعى المصري، وفخر الصناعة الوطنية. ومع ذلك فالتوجه المختلف لحل أزمتهما يجعلنا نتساءل؛ هل ترقيع الهواء أجدى أم طرق الحديد أنفع؟ أم فكر إدارة الأزمة هو المشكلة ؟

التصدى للموضوعين يحتاج لجانا متخصصة ورؤى نافذة، ولكنى أطرح السؤال بمنظور مواطن وليس أهل الصناعتين. ماسبيرو بمديونية 38 مليار جم و50 ألف عامل (أغلبهم أسرات كاملة بحواشيها، ونسب كبيرة جدا لا تكفيها أجوره فيعملون خارجه ويقبضون راتبه)، فضلا عن حزمة شركات من أسس صناعة الإعلام المصرى كتملك شركة صوت القاهرة كاملة، ومساهمات بشركة مدينة الإنتاج الإعلامى بنسبة %42 الشركة المصرية للأقمار الصناعية النايل سات %96 الشركة المصرية للقنوات الفضائية %52 شركة النيل للشبكات والاتصالات %25 ورغم كل ذلك، فإن تسبب مديونية 38 مليار جم على مجانية الخدمات الإعلامية القومية وفوائد الديون لبنك الاستثمار القومي، أمر يحتاج تفكر وتدبر!

هناك فرق بين مديونية ماسبيرو وبين أزمته الفنية والفكرية! فواقعيا ماسبيرو ذاكرة مصر التى سُربت ونحتاج لإنقاذه ليس فقط بالمال ولكن بترسيم أزمته! فالتراث السينمائى بيع لـ«روتانا» و«فنون»، والدرامى انتقل لمنصة «ووتش إت»، وبقايا البرامج التلفزيونية والتراث الإذاعى يرزحان تحت التغييب والإهمال وعدم التنظيم، بخلاف إنتاج متواضع فنيا وجودة خلال العقد الأخير، ومع ذلك فهو أضخم محتوى سمعي/بصري، ومن أقيم المحتويات المعرفية بمصر، الماسة بكل روافد ثقافتها وحياتها، فكان له أعرض جمهور وشريحة منتفعين ومستخدمين، كأقوى أداة معرفية مؤثرة بالوعى الجمعي، ومع ذلك فبه أضعف نظام حفظ وأرشفة واسترجاع معلومات أو الاستفادة منها، وأكبر تكلفة مالية لتنفيذ نظام حفظ تقليدى قد يجاوز موازنة تطويره، ماسبيرو كجهاز وعى جمعى حكومى يحتاج الدعم ولكن أى دعم؟

نجح ماسبيرو بانتزاع نُصرة لمطالبة الدولة بدعم خسارته ودفع مديونيته، من خلال مجموعة توصيات بصرف مكافآت نهاية الخدمة للعاملين بالإعلام، زيادة موازنة «الأعلى للإعلام» 5 ملايين جنيه، استدعاء وزيرى المالية والتخطيط لحل أزمة ماسبيرو بسداد مقابل الخدمات الحكومية والقومية المجانية للتلفزيون، بحسبان أن تليفزيون وإعلام الدولة سينهار خلال عامين إذا لم يتم إنهاء مشاكله! والسؤال المتوقع لو انتعش ماسبيرو بعد دفع ديونه، بذات الاستراتيجية والهيكلية والإدارة والرؤية والناتج، فهل النتيجة ستختلف؟ لا أعتقد بنجاح الحلول إلا فى رتق الهواء، باستجلاب بعض المليارات وسد مديونيات، ثم الإفاقة بأن ماسبيرو عجّز وشاخ والأفضل بيعه هو أيضا!

تحتاج توصيات الحلول لاعتبار تمويل رؤية جديدة للإعلام المصري، خارج الاستحواذ الكمى لحزمة القنوات الفضائية، لتمويل تغيير منظومة الإدارة، إعادة الهيكلة وتحجيم الشللية، علاج وادارة المحتوى والتحول للرقمية، خطط تسويقية ومناهج مقاومة نتفليكس وحتمية التفاعل مع الإنترنت، بل قد يكون من الحلول التعاقد لمدة 10 سنوات مع جهة عالمية محترفة، لإدارة المنظومة بنظام Revenue Share ولو حصلت الجهة على %60 من الأرباح، مع اشتراط نقلا التكنولوجيا وتدريب أجيال جديدة فى إدارة وصناعة الإعلام.

الحقيقة؛ تقف قضية الإبداع وحرية الفكر واستعادة الوعي، موقف الشريك مع أزمة مديونية ماسبيرو! فروافد أزمة الوعى الجمعى المصرى تتمثل بغياب القدوة وفساد الذوق وضعف الكوادر الحالية، رحيل الرواد والمحترفين، غياب نماذج المقارنة، ضعف الانتماء وتشتت الهوية. العلاقة بين أزمة الوعى وماسبيرو ذاكرة مصر المهدرة، قد يربطها توظيف التقنية لإدارة الأزمة، والاحتياج لحل تقنى يخرج المحتوى، من حالة الثبات للحركة لتقديمه بصور جديدة. فهل مجرد الترقيع المالى لحل الأزمة أنسب، أم نفض الفكر وإعادة بناء الوعى برؤى متطورة، والخروج لمنظومة إدارة عالمية أدعى؟

ورغم زخم مديونية ماسبيرو وحساسية تعامله مع الوعى الجمعى واحتياجه لإنقاذ موضوعى لا مالى فقط، وجد يد المساعدة ومحاولة الإنقاذ بحلول تحتاج بدورها حلولا!

فى حين مصانع الحديد والصلب بحلوان، قلعة الصناعات الثقيلة بمصر ومن رموز رسوخها، بمديونية 8 مليارات جم فقط و7 آلاف عامل، وجدت من يصدر قرارا بتصفيتها وبيعها وتسريح العمالة لأنها (بتخسر)؟ لم يجد الحديد من ينصره بمصر الجديدة، لم يجد من يتكلم بجدية عنه بمجلس النواب أو يطالب الدولة بدعم خسارته أو سداد مديونياته أو إعادة هيكلته؟ لا أناقش هنا المفاضلة بين الهواء والحديد أو ماسبيرو وحلوان، ولكن إذا كان ماسبيرو رمزا لإعلام الدولة وشريكا بتدهور الوعى الجمعى المصري.. فالحديد والصلب بحلوان كانت منصة صالحة لبداية تحول مصر لدولة صناعية لا تجميعية فقط. عام 99 سأل م. هيروشى اليابانى فنى تشغيل الماكينات بالوكالة اليابانية للفضاء (جاسكا)، الدكتور محمد حسن قائلا (إن ألمانيا تصنع السيارات المتقنة مثل مرسيدس بنز وبى إم دبليو، والسويد تصنع الڤولڤو، وإنجلترا تصنع الرولزرويس، وفرنسا تصنع البيچو، وإيطاليا الفيرارى ولمبورجينى، وأمريكا تصنع الفورد والشيفروليه والطائرات البوينج ومكوك الفضاء، ولذلك أعرف تلك البلاد جيداً، فماذا تصنع مصر لكى أعرفها به؟).

يجتمع فى الهواء والحديد معا أزمات الإدارة، سوء التخطيط، ضعف التسويق، ضعف الموارد، غياب منهجيات التمويل والتطوير، ضعف الجودة، ارتباط الأداء الوظيفى والعملى بفكر وقوانين القطاع العام، تغليب استمرار فوائد الوظيفة على نجاح ناتجها، عدم ربط الأجر بجودة ناتج العمل إلخ. تصفية وبيع الحديد والصلب بحلوان خلفه منظومة كاملة من المصالح وجماعات الضغط وحكم وابتلاع السوق. فماذا لو قررت الدولة دعم وتعويم مصنع الحديد والصلب بحلوان، والتعاقد مع شركات عالمية محترفة لإدارة المنظومة بنظام Revenue Share مع اشتراط نقل التكنولوجيا وتدريب أجيال جديدة؟ وأخرجنا منتجات جديدة تدعم احتياج مصر للحديد بمشروعات القطار الكهربائى والمونوريل مثلا؟ سنحافظ على الأصل ونطور ونتعلم، وتبدأ دورة تفريخ التصنيع، ونعيد التفكير بمفهوم أربح/تربح، لا أربح/تخسر، أو أخسر/تخسر!

انتظروا نهضة مصنع الحديد والصلب بحلوان (وغيره) بعد بيعه وتغيير الإدارة واستراتيجية العمل، لنقول ليت ما جرى ما كان، لنعيد استراتيجية التعامل مع ماسبيرو.

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]