تدهور كرامتنا بين حذاء باريس ونصاب بورسعيد!

محمد بكري

9:15 ص, الأحد, 5 يناير 25

محمد بكري

محمد بكري

9:15 ص, الأحد, 5 يناير 25

إعادة نشرى لهذا المقال السابق فى 2023/4/27، سببه ما نُشر ببوابة أخبار اليوم 2024/12/23 لإعلان محافظ بورسعيد، عودة تمثال ديليسبس لبورسعيد بعد انتظار طويل، مُبررًا باعتباره خطوة إيجابية ستسهم فى تعزيز مكانة بورسعيد كوجهة سياحية! وكنت توقعت انتصار الوعى الجمعى الشعبي، لدلالة خطورة عودة تمثال ديليسبس لبورسعيد، ولكن يبدو أن آفة حارتنا النسيان! فعودة ديليسبس 2025 ستعاصر موعد 150 سنة على دعس حذاء شامبليون لهامة ملك مصر بباريس! ويا له من توقيت ومعنى وتعمد لدهورة الكرامة المصرية قديمًا وحديثًا! ولعل بإعادة نشرى لهذا المقال ما يجد فيه السيد/ محافظ بورسعيد وجهة نظر جديرة بإعادة نظره لتعزيز السياحة على حساب الكرامة وقهر كل أحفاد المصريين، الذين تئن أرواحهم ببطن قناة السويس رافضة هذه العودة المُريبة!

(هل مناشدة مصر فرنسا بإزالة تمثال شامبليون بباريس داعسًا بحذائه رأس رمسيس الثاني، توازن مطالبتها من فرنسا لإعادة تمثال ديليسبس “نصاب بورسعيد” وداعس أرواح آلاف المصريين، لموقعه بمدخل قناتها الخالدة؟ بمعنى؛ هل فى ثنائية فرض فرنسا بقاء تمثال شامبليون وعودة تمثال ديليسبس لموقعه بعد إزالته 1956، ما يمس بكرامة مصر المعاصرة؟ فمن هو ديليسبس النصاب الرسمى لتطالب فرنسا بعودته، أمام رفضها إنقاذ الجد الأعظم للمصريين؟

عندما طالب ستيفان روماتييه سفير فرنسا بالقاهرة 2019 الحكومة المصرية بمؤتمر رسمي، تبنيها لعودة تمثال ديليسبس لمقره بمدخل مدينة بورسعيد، أعلن بذات المؤتمر “تمثال شامبليون لن يُزال، فهو يعبر عن الروابط المصرية بفرنسا وهو هناك منذ 120 عامًا، وسيظل 120 عامًا دليلًا على المناخ الثقافي”!

تمثال شامبليون نحته بارتولدى إعجابا بعالم استكمل فهم الهيروغليفية ولم يكتشفها حصرًا، وبجّله بوضع حذائه فوق رأس رمسيس الثانى برمزية الفهم والمعرفة لكل شيء بعنصرية ثقافية فذة! أما تمثال ديليسبس فتم بعد فتح القناة بـ30 سنة و5 من وفاة صاحبه، وفرضته 1899 الإدارة الفرنسية لشركة القناة بمدخل القناة كرمزية للسُخرة واستعباد 250 ألف فلاح مصري، لشق قناة سرق ديليسبس مشروعها! ونجح المصريون بإزالته بعد العدوان الثلاثى 1956، ومع ذلك يطالب السفير الفرنسى مصر بإعادته، رغم حظر القضاء والقانون الفرنسى ذكر أو تكريم ديليسبس بفرنسا، للحكم عليه بفرنسا كنصاب رسمى بجرائم مخلة بالشرف لإفلاس شركة قناة بنما! فالعار بفرنسا مُكرمٌ بمصر، فأى منطق يجعل كرامتنا كمصريين رهينة بين حذاء باريس ونصاب بورسعيد؟

استفز اهتمامى بدراسة أزمة تمثال شامبليون، منذ فيديوهات توثيق الوجع 2012 للمصرى الفرنسى الفنان المميز هشام جاد بباريس وزخم المناشدات بعدها، تلك الأزمة المفتعلة لإعادة تمثال ديليسبس لموقعه بمدخل قناة السويس بعد إزالته كالمذكور! ومع احترامى للمنادين بعودته اعترافا بواقعية فضل ديليسبس لإقناع سعيد باشا بحفر القناة وتأسيس مدينة بورسعيد بنمط أوروبي، وما ستستفيده المدينة سياحيا بعودته، واعتباره جزءا من تاريخها، بعدما أدرج بعداد الآثار الإسلامية والقبطية بقرار وزاري، إلا أن الموضوع له أبعاد أخرى قد تدق ملاحظتها ومهم الانتباه لها؟

فالتمثالان لمواطنَين فرنسيَين؛ أحدهما مص دماء المصريين وربض بينهم وأزالوه (ديليسبس) ويُستمات لعودته، والآخر مص كرامتهم بباريس وعزيز عن الإزالة (شامبليون) رغم مناشدات مصر والمصريين برفع الوجع عن رأسهم! الغريب أن بارتولدى نحات تمثال شامبليون، قابل ديليسبس بالقاهرة 1869 لإقناعه بتمثاله الضخم 28م (مصر تنير الطريق لآسيا) بمدخل القناة، لكن غيرة ونرجسية ديليسبس فشّلت المشروع، فأوعز للخديوى إسماعيل برفضه لارتفاع تكلفته وقتها، مما أعاد بارتولدى لباريس حاملا حقده وانتقامه من ديليسبس ومصر معا، ليُظهر للنور تمثاله النقمة (شامبليون)! (كما ورد بكتاب ديليسبس الأسطورة الكاذبة لمحمد الشافعى صفحة 203).

لا توجد علاقة مباشرة بين بارتولدى وتمثال ديليسبس إلا فى المعنى! فسواء كان تمثال شامبليون لبارتولدى قديما مخفيا، أو أظهره لاحقا كانتقام من موقف ديليسبس وإسماعيل أم لا، إلا أن التمثالين يشتركان فى طحن الكرامة المصرية بين الرحى الفرنسية! أحدهما لمدعى حصريته (بالباطل) فى اكتشاف الهيروغليفية (وهو لم يفهم أو يعرف كل شيء)، والآخر نصاب بحكم قضائى فرنسى ومعزول التكريم والذكر بها! وبخلاف سُخرته للمصريين فى الحفر اليدوى للقناة، فهو خائن عرابى باشا بفتح القناة للإنجليز وسبب الاستعمار الإنجليزى لمصر 75 سنة! ومع ذلك يناضل د. أسامة الغزالى حرب، وأحد أعضاء مجلس النواب عن محافظة بورسعيد، وجمعية أصدقاء ديليسبس وقناة السويس بفرنسا، وجمعية المحافظة على التراث ببورسعيد والمعروفة بالإليانس فرانسيس، والسفير الفرنسى وغيرهم، لعودة التمثال المشؤوم لقاعدته! بل ويتطوع أحد البورسعيديين النابهين باقتراح “أنا موافق على عودة التمثال لقاعدته، ولكن على وزارة الخارجية عقد صفقات مع الجانب الفرنسى بتنظيم أفواج سياحية لزيارة المكان”. فهل استعادة الانتعاش السياحى لبورسعيد تأتى على حساب الكرامة المصرية، أم دماء شهداء حفر القناة أرخص عندهم من تمثال برونزى لنصاب رسمى وخائن تاريخي؟ أم أصبحنا من ملوك النسيان ومحترفى التعايش مع القهر؟

إن رمزية إزالة أحد الفدائيين لتمثال ديليسبس مع عدوان 1956، تحمل رسالة خطيرة من الوعى الشعبى بالحرية ورفض الاستعباد بجميع صوره، لتأتى محاولات إعادته لقاعدته تمريرا ناعما لصور جديدة من الاسترقاق الفكرى والثقافى والشعورى من (Mama France) للأجيال الجديدة! وفى عز نضال المصريين لفك أسر رأس رمسيس الثانى من تحت حذاء شامبليون لدعسه شعور وكرامة وتاريخ المصريين، ينجح اللوبى الفرنسى فى إبهار العديدين بفكرة عدم تجزئة التاريخ وإعادة الفضل لأهله والثقة بالنفس والرواج السياحى إلخ.

لم يخطئ نابليون بقوله: “لا نحكم شعبا إلا بأن نريه المستقبل، فالقائد تاجر الأمل” وهى الإستراتيجية الفرنسية لإعادة ديليسبس لقاعدته، بعد يقظة المصريين لاستعباده وسرقاته وخياناته ونصبه الموثق، المتفجر مع اشتراك فرنسا بالعدوان الثلاثي! إستراتيجية رجع ديليسبس وسترى السياحة! رجعه وستكسب احترام العالم لرد الفضل لأهله! رجعه لأنك معترف به كأثر تاريخي! رجعه واحترم تاريخ بورسعيد ومستقبلها! ولكن لا تحدثنى عن ديليسبس فى فرنسا ولا تطلب مساواة شامبليون بمصيره فى باريس؟ فما لى فهو لي، وما لك فهو محل مناقشة! ديليسبس مُدان ومُقبّح بفرنسا ولا تملك فرضه كحالة مثل، ولكننا أهله وظهره لنعود به ورسائله لبورسعيد! وشامبليون بوصلة فرنسا لاستمرار التنقيب وحامى ريادتها الأثرية، فلا تتلاعب بفكرة كرامة مصر والمصريين لتنخر التاريخ الفرنسى التليد!

أردت أم لم ترد؛ فالحذاء الباريسى مستمر والنصاب البورسعيدى قادم! فقط أعطنى وقتا ومزيدا من المؤمنين بالانفتاح الفكري، وعقدة الخواجة، وحرية التعبير، والتفوق الثقافي، والتمجيد التاريخي، والاستثمار طويل المدى، وهم كثيرون جدا ويكفوننا همّ الدفاع والتبرير والهجوم! فطالما لا تطالبنى بلغتى فلست مطالبا بسماعك أو فهمك! فحتى الآن شامبليون فوق الفهم والمناشدة، وبارتولدى مُبدع غير مسؤول، وديليسبس عار فرنسا سيرجع لبورسعيد لتنشيط السياحة وتمتين التاريخ! فلا بأس إذن بمناشدتك لتنفيس وجعك، مقابل مستقبل خائر نُريه لكم!

لك الله يا مصر ثم مرزوقو الفهم والصبر والمطالبة! أما ديليسبس فما مضى من زمن لا يعود، وإن عاد فستكون مهزلة مصر المعاصرة فى بيع الحرية المنتزعة للاستمتاع بالعبودية من جديد!).

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]