قدمت بالمقال السابق المصطلح الجديد (تحرير دخل الفرد)، وعنيت به الدخل المكتسب والذى قدرت سجنه بنظم وقوالب اقتصادية وسياسية، توخت دائما محاولة التوازن بين العدالة الاجتماعية وحرية السوق، خدمة لظروف اقتصادية ومعيشية مستقرة للمواطن المصري. وعلى مدار عقود الدولة المصرية منذ 1952 وهى تدعم الاقتصاد ومحدودى الدخل والموظفين والطبقة الوسطي، من خلال حزم قوانين تنظم العمل بالقطاعين الخاص والعام، وخاضت بها، العديد من الخطط والبرامج الاقتصادية والدعم والمساندة المالية والعملية والاجتماعية لحفظ النسيج الاجتماعى المصري، وبالفعل حققت مصر حتى منتصف الثمانينيات صروحا زراعية وصناعية وإنتاجية، كانت الطبقة الوسطى فيها العمود الفقرى للاقتصاد والمجتمع، وانعكس ذلك على مستويات التعليم والثقافة والفن والأداء.
مع استمرار الدور الداعم للدولة للدخل الفردى المكتسب ودخول مرحلة الاستثمار الاستهلاكى وتراجع دور الريف المصرى ثم مرحلة الخصخصة، تراكم الشعور وتجمد بمسؤوليتها عن دخل المواطن الأساسي، ولعقود طويلة استمر الدعم على حساب الجودة والتطور والتدريب، فتجاوز أصحاب الدخل المكتسب الإحساس بمسؤولية الدولة عنهم، للعشم فيها ثم الغشم معها، ليصبح دورها بحياتهم محوريا، قياديا، توجيهيا.
ومع سياسات التزام الدولة بالتعيين وخلق الوظائف وحماية العامل والموظف، تنامى شعور صاحب الدخل المكتسب بالاستحقاق المطلق لمجرد استيفائه الشروط الشكلية (شهادة التخرج/الواسطة) لا الموضوعية للوظائف! وغاب عنه ربط الأجر بالجودة والإنتاجية، وغُنمه الأجر مقابل غُرمه تطوير ذاته وتدريبها ورفع مستواها وترقية مؤهلاته، لاستمرار جدارته باستحقاقه لأجره.
أصبحت الدولة طوال 69 عاما، بمواجهة صعبة بين شعب يعتمد عليها معظمه بالأجر المكتسب، وبين فلسفة تعليم وتوظيف تستهدف ذوى الياقات البيضاء وتحجم ذوى الياقات الزرقاء وبذر الدونية بطبقات الحرفيين والمهنيين والتعليم المتوسط، ومركزية إدارية بالوظائف والعمل بالقاهرة والمحافظات والمدن الكبري، التزامات تطوير البنية التحتية لبلد بحجم مصر، ديون خارجية نتيجة إرث قديم متجدد، ناتج قومى عام غير متناسب مع ما يضخ بالسوق، دفعات من أزمات أمنية واقتصادية، التزام جوهرى بالمحافظة والسيطرة على ولاء الطبقة الوسطي، حتمية استراتيجية للتدرج من الدفاع للردع لقدرة المواجهة، تجربة زواج المال بالسلطة وإنجاب جماعات ضغط ومحاسيب وتوسع الشلل الحاكمة، زيادة سكانية رهيبة ترفض الترويض، تضخم لا يهدأ، شارع يستحدث معانى غريبة بتبنى معانٍ جديدة للقوة والبلطجة والسمسرة بكل شيء، مؤسسات تعليم وتدريب لا تنتج المستويات المطلوبة لمواجهة المنافسة الإقليمية والعالمية، فلسفة سخرية وكوميديا سوداء وانتقاد صبغت الشخصية المصرية بألوان باهتة بثقافة سطحية تطعن بالكل للكل.
إزاء تعقد ما تواجهه الدولة وعدم كفاية دخل الفرد لإقامة حياته، وجد صاحب الدخل المكتسب نفسه بمواجهة قاسية، بين احتياجه البقاء حيا وبين منظومة حوله تنسج شرنقة تحوله من (أ) المصرى المعروف لنا بأفلام ما قبل 52 وحتى مرحلة فيلم «انتبهوا أيها السادة» و»البيه البواب»، إلى (ب) المصرى الحديث، الذى قدمته السينما والتلفزيون وأدب آخر 25 سنة، واستباحتهم فيه التوثيق والتطوير والتوسعة لطرق جديدة لزيادة الدخل تعتمد القوة والفهلوة والشطارة واقتناص الفرص والاتكالية والشللية إلخ.
الشخصية نتاج التربية والتعليم والثقافة والفن والإعلام، وعند ضعف وإضعاف وتشتت هذه المكونات، فإن منظومة القيم بالمجتمع تثمر مخرجات تنحر الشخصية المصرية واستباحتها لأى وسيلة للبقاء حية! ليتمدد الدخل المكتسب بدوره ويتورم، ليستوعب أشكالا جديدة للمدخولات لا ضابط فيها أو رقابة أو جودة.
هنا يجب العودة لدور الدولة الأساسى كتنظيم قانونى سياسي، لإدارة شعب، على رقعة أرض محددة، لتؤثر هذه الإدارة بهوية الشعب وقيمه وأدائه ومصادر كسب رزقه. وعليه، يمكن للدولة إدارة مفهوم التنمية كعملية شاملة متكاملة، يتوقف نجاحها بما يقوم به الشعب من جهد متعدد الأشكال والجوانب. فإذا كانت منظومة تشكيل الجهد ذاته ضعيفة أو مشتتة سواء كتعليم وثقافة ومعرفة ونشر قيم وفن وإعلام يعبر عنها، وصياغة ذلك برسائل توعية ومتابعة تشكل الوعى الجمعي، فلا مجال للتحدى بجهد شعب يفتقد القيم وتعوزه الثقافة ويحتاج منهجية تعليم احترافى، يوجه الدراسة والبحث والتخصص، لمواجهة متطلبات سوق تحتاج كفاءة وجودة ومقدرة، ليسمح معها بدخول مكتسبة مميزة، تحمى فيها الدول العامل والموظف المؤدى الحقيقى والجاد، ليستحق نصيبه بالعدالة الاجتماعية.
مراجعة دور الدولة بالعهود الأخيرة تثبت إنجازات عددية ضخمة بالمدارس والجامعات ومراكز التدريب إلخ. ولكن بدون منظومة متكاملة من نظام تعليمى مُحكم يساوى بالجودة بين الغنى والفقير + دراسات سوق تواكب وظائف ومستويات الجودة العالمية + نظام صارم بالتعيينات + إعلام واعٍ جدا + إدارة ثقافة ومواهب مُجددة + رسالة فن مُصححة تراقب بوعى لا سيطرة + منظومة تدريب عالمى تتعهد ناتج التعليم، بدون كل ذلك، فلا مجال للقول بجهد حقيقى للمصريين يدعم تنمية الدولة، أو بتحرير دخل الفرد من السلبيات والفساد المتوغل بأركانه، بحجة البقاء حيا.
النقطة الحقيقية أن منظومة العلاج المذكورة لا تحتاج تمويلا ماليا! ولكن تحتاج رؤية صادقة بقرارات إصلاح شامل، يواكب نهضة مصر بالبنية التحتية المنفذة آخر 4 سنوات! سبق أن كتبت مقالا بعنوان «من كبارى الأرض لجسور العقل» وكل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية تقول، إن مستقبل مصر على مستوى الجغرافيا ممتاز لجلب واستقدام الاستثمارات العالمية، ولكنها لو صادفت العقلية الآسنة لصاحب الدخل المكتسب الحالي، لسمحنا طوعا وكرها باجتياح الأجانب المدربين والمؤهلين للتمتع بجغرافيتنا، لنكمل مسيرتنا بالشجب والانتقاد والبلطجة! والمحصلة ستكون جبرنا للهجرة للصحراء أو الانغلاق بمكعبات رمادية وسوداء، لا تنال من دخل الفرد الجديد حظها.
استفيقوا يرحمكم الله!
- محامى وكاتب مصرى