و”تاتا” أو “ماديبا” أو “أبو الأمة”، هو نيلسون مانديلا (1918-2013)، أما العدل فهى محكمة العدل الدولية (ICJ) المحكمة الرئيسية للأمم المتحدة لفض المنازعات القانونية بين الدول، ومنها منازعات الإبادة الجماعية؛ كالبوسنة والهرسك مقابل صرب البوسنة والهرسك 93-2007/ رواندا ضد أوغندا 1999/ بوتسوانا ضد الجمهورية السودانية 2006، وأخيرا جنوب أفريقيا ضد الإبادة الجماعية لشعب غزة 2023! هذه أول مرة يرفع فيها أولاد وأحفاد “تاتا” أصابعهم فى وجه أم السامية العالمية، تناقضا لعلاقاتها القديمة الوثيقة أمنيا وعسكريا واستخباراتيا مع النظام الجنوب أفريقى قبل انتهاء الفصل العنصري، ثم سطوع رئاسة “تاتا” 94 وتعويض عهود الفصل العنصرى والمهانة والظلم والقهر، بسياسات خارجية تلتزم بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، لتبدأ رحلة المؤازرة منذ عملية “الرصاص المصبوب” فى غزة 2008 وحتى “السيوف الحديدية” 2023!
لم يُحكم فى القضية بعد، ولكنها سابقة خطيرة لجرح التابو والاجتراء على أم السامية، فى قضية دولية تحت نظام قانونى دولى سارٍ، بأدلة ودلائل وشهود وإحصائيات، تستنفر وتستقطب قلوب ومواجع ودعوات مليارات الأعين شاهدة المأساة منذ 1948، ولم يجرؤ أحد على النجاة من تهمة معاداة السامية، أو أمها، أو تداعيات رفع إصبعه، أو كلمته، أو خطه! ليأتى “تاتا” لساحة العدل الدولية بعد 75 سنة مُشهرا أسنة أقلامه، ومُصفحات ملفاته، ومدافع دفاعه ودفوعه عن واقعة ثابتة، تخضع لكل شروط ومواصفات جريمة الإبادة الجماعية كما هى فى ميثاق الأمم المتحدة.
لذلك فمهم جدا ملاحظة أن العدل الدولية ليست لديها سلطة تنفيذية مباشرة، ولذلك فإن تنفيذ حكمها يتوقف على التعاون الطوعى من قبل الدول المعنية، ومن هنا ندرك خطورة قضية “تاتا العدل” ضد أم السامية العالمية! كدّابة الأرض التى تأكل مُنسأة سليمان ليهوى، وكرة الثلج المتدحرجة ولن تتوقف حتى تحرج مجلس الأمن والأمم المتحدة وكافة مواثيقها برمتها! فإما تطبق المواثيق كما اتُفق وإما انعزلت أم السامية وكفيلتها وعرابتها!
وبغض النظر عن مكونات القضية أو الدفاع والحكم فيها، لكن ما يعنينى هو توظيف المعرفة القانونية مع المقدرة السياسية لنحت قرار رفع القضية! فمراجعة دعاوى الإبادة الجماعية السابقة، تكشف زخما من الأرضيات المشتركة – جغرافيا وسياسيا وعرقيا – الموفرة للصفة والمصلحة! أما “عدل تاتا” فبعيد جغرافيا وسياسيا وعرقيا عن أم السامية! الرابط الوحيد هو (الإنسان) كمحل وحيد وحقيقى لكل المواثيق الدولية والوطنية أيضا، ومهاجمة “تاتا” بعدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذى صفة أو بلا مصلحة، سيكون إهدارا كاملا لوجود ومعنى وكينونة (الإنسان) فى القانون الدولي، والقانون الدولى الإنساني، ودور محكمة العدل الدولية، بل ووظيفة الأمم المتحدة ذاتها، كخادمة للشعوب لا أداة للنظم.
ورغم ذلك ستظل هذه القضية رمزا وأيقونة دولية خالدة، لانقلاب السحر على الساحر! ومحاولة إخراج نصوص المواثيق الدولية واتفاقات الدول، من حبر السياسة والدبلوماسية واتفاقات الدول الكبرى لتدجين الكوكب وهش شعوبه، وجرها لمأزق حقيقى لمجلس الأمن والأمم المتحدة! لا أتكهن بتوقعات مرسلة أو استبق أحداث، ولكن طالما هناك قضية، فهناك أدلة، فتحقيق، فحكم وتنفيذ! طبيعى لا مشكلة عند رفض القضية! ولكن الإشكالية ستكون بتنفيذ الحكم على الدولة المخالفة؟ وكيفية تجنبها لتنفيذ الحكم والعقوبات؟ وموقف دول العالم من ذلك!
قبل الإجابة أو مناقشة التداعيات، فالمبادئ القانونية التالية تحكم الموضوع (التدابير الوقائية إجراءات محكمة العدل بنظرها القضية لحماية الحقوق والمصالح للأطراف المعنية، لحفظ الوضع القائم أو تجنب أضرار لا تُصحح حتى الحكم النهائي، كوقف العمليات العدائية، حماية المدنيين، تجميد الأصول وفرض العقوبات، حماية الأدلة والشهود/وعندما تصدر المحكمة قرارًا وتطلب تنفيذه من دولة متهمة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، فالقرار يصبح قانونًا ملزمًا لتلك الدولة، ولكن يمكنها الامتناع عن التنفيذ، وللمحكمة عندئذ طلب مساعدة الأمم المتحدة أو فرض عقوبات عليها، فإن لم تلتزم بالتنفيذ، يرفع الأمر لمجلس الأمن، المجيز للفيتو كآلية تتيح للدولة الدائمة العضوية بالمجلس منع مرور أى قرار يتطلب إجماع الدول الدائمة العضوية (أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وإنجلترا) فإذا تم الفيتو، فالقرار لن يصبح قانونًا ملزمًا ولن يتم تنفيذه/ وبالتالى إذا سخرت الدولة المخالفة الفيتو من أحدهم، فإنها قد تتجنب العقوبات المقترحة بواسطة المجلس، بما يعتبر تحديًا لفعالية نظام العدالة الدولية وقدرة المجتمع الدولى لمعاقبة الدولة المخالفة!وبالتالى إذا نفذ أحد أعضاء المجلس الفيتو رسميًا، ولم يتفاعل باقى أعضاء المجلس لتنفيذ أى إجراءات أو عقوبات ضد الدولة المخالفة، فيمكن للدول الأعضاء الباقية بالأمم المتحدة اتخاذ إجراءات ثنائية أو متعددة للتعامل مع الدولة المخالفة، فيفرضوا عقوبات ثنائية أو متعددة، كالقيود التجارية أو العقوبات الاقتصادية، أو تعزيز التعاون الأمنى لمواجهة التهديدات، بل قد تكون الدول المجاورة للدولة المخالفة أكثر تأثرًا بسلوكها ويمكن أن تتعرض للتهديدات الأمنية المباشرة عندئذ، فتقوم الدول المجاورة باتخاذ إجراءات للدفاع عن أنفسها وحماية أمنها الوطني، كتعزيز الأمن الحدودى أو تشديد رقابة التجارة والتنقل بين البلدين).
“تاتا العدل” أصبح سابقة عالمية فى تطبيق المواثيق الدولية المؤسسة على كينونة ووجود الإنسان، وليس لجغرافيته أوعرقه أو ديانته! وستكون بابا لفتح سابقة أخرى لمحاصرة العنصرية غير المقتصرة فقط على الإيذاء الجسدى أو القوة، بل شمولها أيضًا الإيذاء النفسى والإهانة للكرامة والتمييز ضد ثقافة أو عرق معين، وتعامل الأشخاص بشكل غير عادل أو منحهم مكانة أقل بناءً على أصلهم العرقي، أو الثقافي.
ومن هنا؛ أفكر هل يمكن عرض قضية مصر ضد نسخة تمثال شامبليون 1875 يدعس بحذائه رأس رمسيس الثاني، على أحفاد “تاتا” ليضموها لمحفظة إيمانهم بكرامة الإنسان وعزته وقهر أحفاد الملك كمدا؟ سؤال محتاج إجابة دولة!
* محامى وكاتب مصرى