هل توظيف علم المكتبات والأرشفة بالمسلسل التلفزيونى “مفترق الطرق”، قتل التوازن بين حرية التعبير والاحترام المهني؟ وهل لذلك علاقة بتهرّؤ دور وسمعة التعليم والثقافة؟ وبينهما وصناعة القرار بمصر؟ وهل لحرق المجمع العلمى 2011 أى رابط بذلك؟ وهل لذلك علاقة بالبروتوكول الثانى (السيطرة على الحكم والتعليم والصحافة) والسادس عشر (إفساد التعليم) لحكماء صهيون؟
تداعيات تساؤلى الداخلى نتج من لقائى أ.د شريف شاهين رئيس الجمعية المصرية للمكتبات والمعلومات والأرشيف، المستاء من المسلسل لظهور “فرد حراسة داخل الكمبوند أشار بحصوله على ليسانس آداب مكتبات، وأن الخادمة التى تعمل حاصلة على ذات الشهادة! واستشعاره الحرج الشخصي، واستنفار واجبه للدفاع عن التخصص والمهنة، لما بالمشهد من إساءة متعمدة وتقليل من شأن التخصص وحق المهنة والمهنيين للحفاظ على وضعهم المجتمعى وصورتهم الذهنية لدى المجتمع”، وإحباطه بعدها من عدم إمكانية الملاحقة القضائية لكون الدراما – كما أُشير له – محمية بحرية التعبير والإبداع! ورغم وجاهة المشورة قانونيا، إلا إننى علقت له “إذا كان ذلك عسيرا أمام محكمة القضاء، فلمحكمة الرأى العام رؤية أخرى”!
استفزت المشورة المقدمة كوامن البحث بداخلى حول علم المكتبات والأرشفة، المعنى بمصادر المعلومات ووسائط حفظها، تنظيمها ببلوجرافيا والاستفادة منها، إدارة المكتبات والمجموعات، والبحث العلمي، وانعكاس ذلك على حفظ التراث الثقافى والمعرفى وحماية المعلومات من الضياع والتلف، ليتبلور كل ذلك بدعمها لصناعة القرار السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والتعليمي. فهذا العلم معنى بالتعامل مع تاريخ وحاضر المعرفة لترسيم مستقبل قرارات الأمة، أو الوزارة، أو الشركة، أو أى مشروع. وبالتالى فليست القضية استياءً شخصيًا او إساءة لخريجى المكتبات والأرشفة لتدنى قيمتهم أو تهميشها، ولكنها أعمق جدا من ذلك، لصور ومواقف جادة أثر فيها تهميش أو غياب أو تجنب دعم هذا العلم على قرارات مصيرية سلبية، وفى المقابل عند اعتمادها أثمرت قرارات مصيرية إيجابية نعيشها حتى الآن!
فقرارات الإصلاح الزراعى وما تلاها من آثار بالخمسينيات، هدفت لتوزيع الأراضى على الفلاحين وتحقيق العدالة الاجتماعية، ورغم النوايا الحسنة، أثمرت مشاكل عميقة لغياب معلومات كافية موثقة عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة، كدراسات ومراجعات كافية لتأثير تفتيت الملكية على الإنتاج الزراعي، وغياب أرشيفات توضح العواقب الطويلة الأمد لهذه السياسة، ساهم بتدهور الزراعة المصرية بالمدى البعيد! أيضا، أثر غياب الأبحاث الموثقة والدراسات الاقتصادية المعمقة فى القرارات الاقتصادية بعهد الانفتاح بالسبعينات، لتحرير الاقتصاد وفتح الأسواق أمام الاستثمارات الأجنبية، لتتأثر هذه السياسات بعواقب غير متوقعة، كزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتدهور بعض الصناعات الوطنية، كان يمكنها أن تكون أكثر نجاحًا لو وجهت بمعلومات اقتصادية موثقة وتحليلات طويلة الأمد! بل إن قرارات الخصخصة بالتسعينيات، أضعفها غياب المعلومات الدقيقة حول القيمة الحقيقية لأصول الشركات، وعدم وجود الدراسات الموثقة لتأثير الخصخصة بالعمالة والاقتصاد، أدى لبيع بعض الأصول بأقل من قيمتها الحقيقية، لتضرب الاقتصاد المصرى وتدهور أو تغلق بعض الشركات بعد الخصخصة! كذلك أزمة سد النهضة، كان يمكن أن يكون للأرشيفات والمعلومات الموثقة دور أكبر لتوجيه القرارات والسياسات المصرية! فعدم الاعتماد الكافى على الأبحاث العلمية الموثقة، أو الاستفادة من الخبراء بمجال المياه والجيولوجيا ومعاهدات البلدين، أنتج قرارات أقل فعالية لحماية أمن مصر المائي! لينفجر تجاهل علم المكتبات واستشارة متخصصى الأرشيفات الثقافية والتاريخية، فيما يتم اتخاذه بقرارات إعادة تطوير مناطق تاريخية لتوسعات مرورية بالقاهرة، دون الرجوع للأرشيفات المعمارية والثقافية، بما دمر بعض المواقع ذات القيمة التاريخية والثقافية، لتفقد قاهرتنا العريقة جزءًا من هويتها وتراثها المصرى الأمينة عليه للأجيال القادمة!
بالمقابل نجح علم المكتبات والأرشفة فى إنجاح مصر بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979) لاحتواء الأرشيفات المصرية معلومات الحروب السابقة، محاولات السلام، والاتفاقيات الدولية المساعدة بتوجيه القيادة المصرية لاتخاذ قرار مدروس! فى استرداد طابا (1989) كان الأرشيف المصرى مليئًا بالخرائط، الوثائق التاريخية، والمراسلات لعقود سابقة، تم استخدامها بمحكمة التحكيم الدولية لإثبات حق مصر فى طابا، فاستند القرار السياسى لمعلومات موثقة بعناية استعادت طابا بشكل قانونى وسلمي! القرار السياسى لبناء السد العالى استند لدراسات وأبحاث موثقة، شملت تحليلات جيولوجية وهيدرولوجية مفصلة، بالإضافة لأرشيفات مناخ مصر المائى وتاريخ الفيضانات، بما أعاد تشكيل الاقتصاد المصرى وعكس قوة التخطيط القائم على معلومات دقيقة وموثقة.
من هنا تبرز أهمية وخطورة حرق المجمع العلمى – كرمز وأيقونة لعلم المكتبات والأرشفة – بضمه لأقسام متعددة تغطى معظم التخصصات العلمية والمعرفية، الحافظة لوثائق، معاهدات، أبحاث، خرائط، مراسلات، ومخطوطات قيمة، تثبت، توضح، وتقنن حقوق مصر بالمنازعات الحدودية، القضايا الدولية والتاريخية والسياسية، التراث الثقافى والسياسي، حقبة الاستعمار الإنجليزى والفرنسي، مديونية إنجلترا لمصر، الطرز المعمارية، والآثار الإسلامية والقبطية والمصرية القديمة، وغيرها يبرز فيها علم المكتبات والأرشفة (كحارس) للمعرفة و(خادم) لصناعة القرار المصرى الصحيح لدعم مستقبلها!
فإذا اعتبرنا كل ما تقدم، يمكننا فهم خطورة البروتوكولين 16،2 لحكماء صهيون (السيطرة على الحكم والتعليم والصحافة بوضع حكام ورؤساء إداريين من العامة لهم ميول العبيد/ السيطرة على مناهج التدريس والميديا/ إفساد التعليم بإنتاج محتوى يدهور عقول الشباب، يحولهم لأمة فاقدة التفكير المستقل)، ولن يكون ذلك بدون (صناعة قرارات) تتجاهل تاريخ موضوعها، فتأتى غير مستنيرة، تبدع فى الخطأ وتكرره، لتكون مرتجلة وغير محسوبة! فالقرارات الصادرة بدون الاستناد لمعرفة موثقة أو أرشيفات أو دراسات تكون محفوفة بالمخاطر، تثمر نتائج غير مرغوبة، وتؤثر سلبًا على الأمن والاستقرار السياسى والاقتصادى للدولة.
وبالتالى فتوظيف علم المكتبات والأرشفة بالمسلسل التلفزيونى “مفترق الطرق”، مس بخبث حقيقة دوره فى حراسة المعرفة وخدمة صناعة القرار المصري! فيكون انعكاسه على استياء وإحباط استاذنا د. شريف شاهين، إضاءة بداخلى لفهم جديد لتطبيقات نعيشها للبروتوكولات، وحالة عامة لضعف الدولة فى حماية سمعة التعليم ومتوليه، وتشجيع التحيز ضد بعض التخصصات، لبث الفرقة بين أعضاء مجتمع تراجع معه – بتخطيط مدروس – دور وزارتى الثقافة والتعليم فى إنقاذهم!
علم المكتبات والأرشفة عالم من الثراء والعطاء الصامت (الجدير بمقال لوحده)! فنحن كبشر خريجين له بدون تأهيل! فنعيش داخل أرشيف من ذكرياتنا، مشاعرنا، خبراتنا، قصص النجاح والفشل، بأوجاعها وطموحها ونتائجها، لنأخذ قرارات حاضرنا ومستقبلنا باسترجاع ودراسة ودعم هذا الأرشيف، ليحسب نجاحنا أو فشلنا باعتبارنا، أو تعلمنا، أو تجاهلنا له! فما بالك بمصر؟
يا مكتبيّى مصر أنقذوا مستقبلها!
* محامى وكاتب مصرى