ختمت مقالى السابق (تأرشفوا تصحوا) بعبارة (علم المكتبات والأرشفة عالم من الثراء والعطاء الصامت (الجدير بمقال وحده)! فنحن البشر خريجون له دون تأهيل! فنعيش داخل أرشيف من ذكرياتنا، مشاعرنا، خبراتنا، قصص النجاح والفشل، بأوجاعها وطموحها ونتائجها، لنأخذ قرارات حاضرنا ومستقبلنا باسترجاع ودراسة ودعم هذا الأرشيف، ليحسب نجاحنا أو فشلنا باعتبارنا، أو تعلمنا، أو تجاهلنا إياه! فما بالك بمصر؟).
ورغم ثبوت أهمية علم المكتبات والأرشفة ووجود كليات ومعاهد متخصصة لها، فإن الوعى الحكومى والمجتمعى بها وبقيمتها يحتاج لإزالة الغبار عنها واستعادة بريقها الحقيقى فى تنظيم وحفظ التراث الثقافى والتاريخي، وحفظ المعلومات من الضياع والتلف؛ دعمًا لصناعة أى قرار سياسى أو اقتصادى أو اجتماعي. فللأسف، يرتبط مفهوم علم المكتبات والأرشفة بالوسائط الورقية فقط (كتب، وثائق، خرائط، ورق)، وانحصرت صورته الذهنية فى وظيفة “أستاذ عبده” الغلبان موظف الأرشيف الحكومى أو المحكمة العائم فى الأضابير والتراب والحشرات! أو “أبلة عزيزة” أمينة المكتبة المدرسية – الملغاة حاليًّا – أو مكتبات الأجهزة المعجونة بكتب لا تُقرأ! والمحصّلة مجرد كشوف للجرد السنوى أو استعادة ملفات قديمة! دون إدراك حقيقى لقيمة المعلومة المحفوظة أو المؤرشفة، وكيفية الاستفادة منها ودورها فى صناعة أى قرار ولو منزلي! والحقيقة أن هذا العلم يغطى فروع تنظيم المعلومات (الفهرسة والتصنيف/ الضبط الببليوغرافي)، نظم إدارة المكتبات وإدارة البيانات، إدارة المجموعات والمكتبات الرقمية، تكنولوجيا الحفظ الرقمي، تحليل البيانات والمعلومات، إدارة المجموعات الثقافية أو إدارة التراث الثقافى (المجموعات الفنية، والآثار، والتحف)، إدارة المتاحف، قوانين الملكية الفكرية والاتجار غير المشروع بالتحف والآثار، المكتبات الفنية والمكتبات الخاصة (الكتب والمراجع المتعلقة بالفنون الجميلة، التصميم، التاريخ الثقافى، الصور الفوتوغرافية، والرسومات، وأفلام وموسيقى). ببساطة، حفظ ونقل المعرفة والذاكرة الثقافية والتاريخية المرتبطة بها للأجيال القادمة. (يمكن تخيل ذلك للحكومة، الشركات، الجمعيات، الأفراد والتاريخ الأسري… إلخ). تخيل مصر دون الأرشيف الحجرى التاريخى لحضارة مصر القديمة؟
القضية ليست فى عقدة الحفظ، أو الاسترجاع، أو إحياء علم مهمَّش، أو مطمور بالفضائيات، أغانى المهرجانات، تكنولوجيا المحمول، مجتمع مدينة العلمين الجديدة، الأجور الخيالية للفنانين، المشاكل الاقتصادية… إلخ، لكنه نفض الغبار عن آلية نحتاج إليها لبناء قرارات حياتية؛ من رأس الدولة، إلى أصغر بيت فيها! فتهميش وتجهيل المعرفة وطرق تحصيلها واستعادتها والاستفادة منها، يجعلنا أسرى الذاكرة السمكية التى تكرر الأخطاء وتُبدع فيها! (ولنا عبرة فى تطوير حسن الصباح لأرشيف مُلك شاه عندما احتاج إلى اتخاذ قرار لتطوير إمبراطوريته، بجرد وأرشفة مصادر وموارد وتكاليف ومصارف بلاده، وأبدع الصباح فى منظومة رمزية سيطرت على معرفة الحاكم بشئون بلاده).
وبتحرى ومراجعة أهل الحَل والعقد، تبيَّن أن تهميش وتجاهل الدولة والمجتمع لهذا العلم وحامليه أورَثَنا فقدان التراث الثقافي، غياب التوثيق السليم، سوء إدارة التراث، فقدان الأصول الوطنية (مأساة حرق المجمع العلمي، حرائق المحاكم فى 25 يناير)! بل إن ضعف مُخرجات وتوظيف هذا العلم تسبَّب فى تأخر التحول الرقمي، فقدان فرص الاستثمار الثقافي، عدم وجود خطط فعالة لإدارة الكوارث المتعلقة بالتراث الثقافي. من هنا وجب إعادة ترسيم دور هذا العلم وخريجيه فى ظل التطور التكنولوجى والرقمنة فى إدارة المعلومات الرقمية، أرشفة البيانات، إدارة المحتوى الرقمي، والتحليل المعلوماتي، من خلال إدارة البيانات الضخمة، الأرشفة الرقمية، إدارة المعرفة بتطوير أنظمة لإدارة المعرفة داخل المؤسسات لتحسين اتخاذ القرار.
تتميز مصر بتعدد المتاحف، المكتبات العامة والخاصة، زخم مقتنى المجموعات الفنية (لوحات، تماثيل، أفلام، موسيقى، كتب)، مكتبات الكليات والجامعات… إلخ، ومع ذلك يلزم تبسيط وتدريج الاستعانة والاستفادة من هذا العلم وخريجيه وأدواته لإمكانية وصوله لأكبر شريحة حكومية ومجتمعية. (فقد يستغرب جدًّا مقتنى مجموعة فنية، متوسطة أو كبيرة، احتياجه لمتخصص مكتبات وأرشفة لمساعدته فى حصر مجموعته، ولكن بإتاحة ذلك سيمكنه حصرها، تقييمها، تطويرها ونماؤها). وفى تقديرى الخاص أن ذلك يمكن من خلال عدة خطوات جريئة ومهمة، مثل تحسين الصورة الذهنية لهذا العلم وخريجيه فى الإعلام بتغيير الصورة النمطية السلبية للخريجين فى المسلسلات والأفلام، وإعادة تقديمهم بوصفهم حراسًا للمعرفة وداعمين لصنع القرار، تأسيس نقابة لخريجى المكتبات والمعلومات والأرشفة، تبنّى الحكومة قرارًا يُلزم المؤسسات الحكومية والخاصة، بما فى ذلك الوزارات، الشركات المساهمة، الجمعيات، المدارس، والجامعات، بتعيين مستشارين متخصصين فى علم المكتبات والأرشفة؛ لمراجعة النظم الموجودة أو تطويرها أو تأسيسها، تعاون القطاع الخاص مع الجمعية المصرية للمكتبات والمعلومات والأرشفة لعمل برامج كمبيوتر مبسطة للمكتبات والأرشيف المنزلى والمجموعات الخاصة والشركات الصغيرة، عرض الجمعية المذكورة لعمل ندوات أو دورات تدريبية، فى الكليات والنوادى والمدارس، لأهمية هذا العلم وكيفية الاستفادة منه فى صورة مختلفة. النتيجة تدخل وتداخل آليات الحفظ والأرشفة، واستعادة المعلومات فى نسيج معرفتنا الحياتية؛ لمعرفة الإمكانيات، والاستفادة بها، وترقية قيمتها، توصلًا إلى صنع قرار صحيح، بتجاهله نخسر موارد، نضاعف تكاليف، نهدر استثمارات، نضيع تاريخًا!
بقدر احتمال ظهور تضخيمى لأهمية علم المكتبات والمعلومات والأرشفة، بقدر خطورة تهميش وتجاهل هذه الأهمية! لأن الموضوع يمس “المعرفة”؛ معرفتنا بتاريخنا وحاضرنا لنصدر قرارًا صحيحًا لمستقبلنا! لذلك نجد مثلًا حرص القوات الأمريكية عند غزو العراق على تدمير مكتباتها العامرة! حريق المجمع العلمي، إحراق أرشيف وأضابير محكمة الأزبكية والجيزة فى 25 يناير ، حرائق مكتبة الإسكندرية القديمة، المغول ومكتبة بيت الحكمة ببغداد، حرق مكتبات المسلمين والمسيحيين الشرقيين أثناء الحروب الصليبية، حرق الصرب مكتبة سراييفو الوطنية، الجماعات المتطرفة لمكتبات تمبكتو بمالي، حرق مكتبات ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية… إلخ. دومًا كان الهدف حرق المعرفة والمعلومات والتراث التاريخى والوطني؛ لمحو هوية الشعوب وقدرتها على التعافى الثقافي. ويخطئ من يظن أن الحرق ماديّ فقط! فالتهميش، والتجاهل، والاستخفاف، وتمييع الصورة الذهنية، والطمر تحت الإعلام الفاسد، وإحباط أهل هذا العلم، هى صور جديدة لحرق المعرفة حية! والنتيجة مزيد من الأحكام والقرارات والخيارات غير المدروسة والخاطئة للوصول إلى الهدف القديم نفسه!
كلنا أهل حكم وقرار، وكلنا معرفتنا مهددة! وكلنا نحتاج إلى علم المكتبات والأرشفة بدرجات مختلفة.. لعلنا نُحكم أيامنا المقبلة! فتأرشفوا تحكموا.
* محامى وكاتب مصرى