طرقت قضية «توعية» المصريين باب الحكومة المصرية، بتدشين وزارة الإرشاد القومى بالقانون 1952/270 «لتوجيه أفراد الأمة وإرشادهم لما يرفع مستواهم المادى والأدبى ويقوّى روحهم المعنوية وشعورهم بالمسئولية ويُحفّزهم للتعاون والتضحية ومضاعفة الجهد لخدمة الوطن وإرشادهم لمكافحة الأوبئة والآفات الزراعية والعادات المؤذية وبصفة عامة ما يُعين لجعلهم مواطنين صالحين» وهى الوزارة التى حملت إرهاصات وزارتى الثقافة والإعلام والهيئة العامة للاستعلامات كجهاز الإعلام الرسمى والعلاقات العامة للدولة، كلٌ فيما يخصه، لتقديم الصورة الذهنية للدولة داخليا وخارجيا و(توعية المصريين) وليس وعيهم! استمر ذات الفكر حتى 2022، بالموافقة المبدئية للجان البرلمانية المشتركة بمجلس النواب، على مشروع قانون بإنشاء «المجلس القومى للوعى» لتعقد وصعود بعض القضايا الضاغطة المرتبطة بالعنف العائلى والأسرى والمجتمعي، مع القضايا الاقتصادية ومشكلة الزيادة السكانية والأمية – «ومن هذا المنطلق يكون محور العمل فى قضية الوعى».
ورغم الجهد المحمود (لتوعية المصريين)، إلا أن هناك فارقا جوهريا بين (التوعية والوعي)! فما تحتاجه مصر والمصريين فى 2022 وما بعدها هو (الوعي)، وليس فقط التوعية! فالتوعية «جهد خارجى» والوعى «يقظة داخلية» لتجربة إنسانية عميقة بين الفرد وذاته. كمثال (وعى المصريين) بالكمبيوتر حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، كجهاز واحد يضم Hardware & Software معا، ليستيقظوا ذات صباح بتحولهم لقراصنة، بجهود جميعة منتجى برامج الكمبيوتر التجارية BSA، (للتوعية) بمخاطر قرصنة البرمجيات وانتهاك حقوق الشركات الأجنبية المنتجة، وتوابع حملات التفتيش والقبض والتحريز من وزارة الداخلية والمصنفات الفنية وقتها، وازدحام المحاكم بالجنح والأحكام، والمد الشعبى الجارف لمقاومة هذه التوعية الفارضة على وعى خطأ، حتى تدريجيا استوعب (وعي) المصريين أهمية وقيمة التعامل مع (الأصل)، لتنطلق وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات 1999، ويتطور النظام بقانون حماية حقوق الملكية الفكرية 2002، وتنطلق إيتيدا 2004 لتحتل البرمجيات وأهميتها والاستثمار فيها مكانا مميزا بوعى المصريين، فتتراجع قرصنة البرامج بدرجة مؤثرة وينمو (الوعى الذاتي) لجمهور المتعاملين والشباب والحكومة والمستثمرين، بأهمية الاستثمار فى (الأصل) وليس التقليد.
استيعاب التفرقة بين التوعية والوعى بتجربة البرامج الأصلية، تقربنا من نقص (وعي) المصريين بمختلف قضايا البيئة، والصحة، والسياسة، والتعليم، والسياحة، والاقتصاد، والدين، والأمن وغيرها من قضايا محلية أو إقليمية أو دولية. منهجيا؛ فعاليات وزارات الثقافة والإعلام والهيئة العامة للاستعلامات جهد خارجى للتوعية وليس الوعي! ورغم أن قضية التوعية من أخطر المهام المُشكلة للرأى العام وأداة مكونات الوعى الجمعي، إلا أن انتشار التوعية كنشاط لخلق اهتمام بمشكلة معينة (من خلال الحملات الإعلانية والمناقشات وتقديم المعلومات الواقعية لتغيير المواقف والممارسات) لا يثمر بالضرورة انتشار الوعى كيقظة ذاتية للإنسان، تحوله لمُدرك لرسالة هذه التوعية وأهدافها فيتبناها، وهذا لن يحدث ما لم تولد بداخله شرارة الشغف وحمى التغيير عن اقتناع وإيمان، لقيادة وعيه لاتباع التوعية وتنفيذها. بغير ذلك ستظل التوعية نشاطا خارجيا ترصد له الميزانيات والمجالس والوظائف والمكافآت، بدون النفاذ إلى (وعي) المواطن، طالما لم نصل لتحريك مفاهيم وأفكار المواطن ذاته، ليتفاعل مع المحيط بوعيه، كمجتمع ودولة وقضاياها المصيرية.
مناقشة قضية الوعى أعمق كثيرا من تأصيل وتقنين (التوعية) وأجهزتها، طالما احتفظ القائمون عليها بذات (الوعي) المطلوب تطويره وتغييره! فالموظف الشريك بصناعة الروتين والبيروقراطية، هو ذاته من يجيز الرشوة (كمصدر دخل يبرره) ليقاوم به ظروف الحياة، ومن يستمع لأغانى المهرجانات والشائعات المغرضة، والفتاوى المتطرفة، ويتأثر بالسوشيال ميديا، ويقبل سنتر الدروس كبديل عن الدور الحقيقى للمدرسة والمعلم، لكسر الملل والإحباط وغلاء الأسعار وضبابية الرؤية، من إعلام غير واعٍ وثقافة مرهقة تفقد تدريجيا جيل الرواد والمفكرين المُشكلين لوعى الشارع.
من هنا ننتبه أن من يقدم (التوعية) من ذات الفصيل المطلوب تطوير وتنقية (وعيه)! لذلك فاستمرار خلط التوعية بالوعي، سيحصل على نفس النتائج من مواطن، ستتبدل عليه أنماط جديدة للتوعية بزعم الوعي! الحقيقة والتجارب العالمية تثبت أن (الوعي) قضية ومسؤولية دولة، تبدأها الحكومة ذاتها وقطاعتها حول المفاهيم والأفكار والأساليب، المكونة للجهاز المفاهيمى المُشكل والحاكم لوعى توجهاتها وإستراتيجياتها فيما يتعلق بالسياسة، والاقتصاد، والتعليم، والإدارة، والثقافة، والدين. فتطوير وبلورة المفاهيم لدى الحكومة وصناع القرار، هى أول دائرة فى (يقظة وعى المواطن)، الذى يستوعب لاحقا (التوعية) ويتفاعل معها.
تعد تجربة حكومة دبى لاستيعاب ووعى مفهوم (رقم واحد)، تطورا جذريا لمفاهيمها للإنجاز، العمل، الإيجابية، الابتكار، الجودة، الفرص، التقنيات، المعرفة، الرؤية، المستقبل، الشفافية، الريادة، الدخل والربح، بصورة حولت مفهوم أن تكون دبى والإمارات (رقم واحد)، لوعى حكومى تُرجم بقوانين وقرارات وسياسات وفكر إدارى ومناهج تنفيذية.
أيضا؛ فاستلهام فلسفة أمريكا باستحداث مفهوم (الحمى الاقتصادية) بالبحث عن الذهب، ثم وادى السيلكون، خلق مفهوم صناعة ظروف وواقع يفجران الطاقات ويضخان الشغف ويستبدلان الملل بالأمل والطموح وابتكار الفرص. لذلك فإيقاظ وإنعاش الوعى للمواطن المصري، حتما يبدأ بنهضة وعيوية داخل الحكومة وأجهزة الدولة ذاتها، عملا بمبدأ (ابدأ بنفسك). فتغيير وتطوير المفاهيم والأفكار لديها سينعكس على أعضائها، وصناع قرارها، وموظفيها، الذين هم ذاتهم من الشعب المطلوب إيقاظ وعيه الذاتى المالى والسياسي، والاجتماعي، والبيئي، والصحي. أطلقت قمة دبى (دليل الحكومات نحو العام 2071)، كأول مشروع لتطوير العمل الحكومى للسنوات الخمسين المقبلة، بنظرة شاملة للابتكارات والتوجهات الرئيسة المؤثرة على المجتمعات والاقتصادات، ورؤية مستقبلية للعمل الحكومى ومؤشرات أدائه الرئيسية، وتصوراً لشكل العلاقة والتفاعل بين الحكومة والمجتمع، وأنظمة التعليم والبيئة الاقتصادية.
لا شك بوجود وعى ذاتى مستقل بكل إدارات الحكومة المصرية (قارن مثلا وعى العاملين بالجيش والتموين والسياحة والرياضة والخارجية والإعلام والتراخيص ورجل الشارع، بكلمات مثل المستقبل والمسؤولية والجودة والتطوير والرؤية والدخل)؟ «وزارة الوعى المصرى» هى الخطوة الأولى نحو تصحيح وتطوير مفاهيم لوعى جديد، كنقلة نوعية لتوليد الوعى المصرى من مُنفذى توعيته، بتطوير مفاهيمهم بمنهجيات تتفق مع المفاهيم العالمية الجديدة للاقتصاد والإدارة والثقافة والفكر والاستثمار والسياحة والتنمية، وهو ما سينعكس تدريجيا برسالة أجهزة توعيتها، لتصل لتشكيل وعى حقيقى جديد للمصري، فيحرص على إعادة بناء ذاته ووعيه طواعية لا إملاء أو تلاعبا. وبغير ذلك فمن سيحرس الحرس؟
* محامى وكاتب مصرى