غزو الرئيس فلاديمير بوتين لأوكرانيا سيفرض على الحكومات في العالم تبعات حرب تشنها دولة عظمى في مجال الطاقة، وتشمل هذه التبعات إنشاء نظام جديد للطاقة في العالم ، بحسب تقرير لوكالة بلومبرج.
وردت دول الاتحاد الأوروبي ال27 بتسريع قطع اعتمادها على الغاز الروسي، بينما حظرت الولايات المتحدة استيراد النفط الروسي، كما أنها تبحث عن إمدادات بديلة.
تعزز السعودية مكانتها الاستراتيجية وسط قفزة في أسعار الخام رفعتها إلى قمم جديدة، صعودا من قيعان بلغتها منذ عامين.
وتهدد روسيا بوقف صادراتها من الطاقة إلى أوروبا وتجد نفسها تقترب أكثر من الصين.
نظام عالمي جديد للطاقة
بلغت الحرب أسبوعها الثالث، وتثير التحولات الجارية على قدم وساق مرارات قديمة، لكنها توفر أيضا فرصة لإنشاء تحالفات جديدة وسط بدء التكتلات في التشكل مما يسرع من إنشاء نظام عالمي جديد للطاقة.
وقال بوب ماكنيلي، رئيس شركة ربيدان إنيرجي جروب :” ينطوي هذا على أكبر محاولة لإعادة رسم خريطة الطاقة والأوضاع الجيوسياسية، وربما العالم، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، إن لم يكن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.”
ومثلما كانت ألمانيا تشغل صدارة الاهتمام في الحرب الباردة الأصلية، فإن لها وضعا متميزا الآن أيضا. وبعد أيام من إرسال روسيا قواتها إلى أوكرانيا، أعلن المستشار الألماني اولوف شولتز زيادة هائلة في ميزانية البلاد الدفاعية، وتم كذلك تدشين خطط لتأمين أمن الطاقة.
تخفيف اعتماد ألمانيا على روسيا في مجال الطاقة يضرب مورد رئيسي لموسكو، كما أنه يعد بمثابة تراجع عن سياسة للتقارب مع الاتحاد السوفيتي، ومع روسيا لاحقا، ظلت سارية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وشملت توثيق الروابط معها في مجالي الغاز والنفط.
كتبت شهادة الوفاة لسياسة التقارب مع روسيا عندما تم تجميد خط غاز نورد ستريم 2 بقيمة 11 مليار دولار، الذي يعد أكثر الإشارات وضوحا على التشكل السريع لتحالفات جديدة.
وعلى الرغم من أن العقوبات الدولية استثنت الطاقة الروسية حتى يمكن تجنيب العالم تبعات كارثية، لكن الإجراءات والإدانات على مستوى الحكومات للغزو الروسي قد أدت لإحجام المشترين عن شراء الإمدادات الروسية من الطاقة. وترتب على هذا صعود أسعار الديزل في شمال غرب أوروبا لتصل أعلى مستوياتها منذ ثمانيات القرن الماضي.
السعودية رفضت الاستجابة للضغوط الأمريكية
وبينما يهجر الزبائن روسيا، فإن شراكتها مع المنتجين الكبار للنفط في الشرق الأوسط ضمن تحالف أوبك-بلس ظلت قوية لحد بعيد. تعد روسيا والسعودية أكبر دول مصدرة للنفط في العالم، إذ تشكلان نسبة 29% من الإجمالي العالمي.
رفضت السعودية الاستجابة لضغوط الولايات المتحدة للحلول محل النفط الروسي عبر الاعتماد على قدراتها الانتاجية الزائدة، لانها فضلت ترك الأسعار تصعد لتصل إلى أعلى مستوياتها خلال 13 عاما عند 140 دولار للبرميل.
ورفضت الرياض فتح حتى نقاش حول الصعوبات التي تواجه موسكو عندما تم التطرق لها خلال اجتماع أوبك-بلس يوم 2 مارس. وسبق هذا الاجتماع حديث دار بين ولي العهد محمد بن سلمان مع بوتين في اليوم السابق.
وقال باولو سكاروني، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إيني الإيطالية :” الولايات المتحد تحاول حض السعودية على زيادة الانتاج، لكن ما الحافز للخروج من التحالف الذي يشكل أهمية كبيرة لهم؟”
هناك سبب سياسي يبرر إخلاص المملكة لموسكو بعيدا عن تدفق مواردها من بيع النفط.
وبينما سعى دونالد ترامب لإقامة علاقات ودية مع السعودية – توجه إلي الرياض في أول زيارة خارجية له كرئيس أمريكي – باتت العلاقات أكثر برودة في عهد الرئيس جو بايدن.
وتعهد بايدن في حملته الانتخابية بتحويل السعودية إلى دولة منبوذة، بسبب مقتل الصحفي جمال خاشقجي. وأكتفى بايدن بالتحدث مع الملك سلمان، مفوضا مسئوليين أقل رتبة في إدارته للتواصل مع الأمير محمد بن سلمان على الرغم من أنه هو الحاكم الفعلي للمملكة.
ومقابل هذا، ساهمت شراكة الرياض مع موسكو داخل نطاق منظمة الأوبك-بلس في تهدئة خلافات استمرت لسنوات بين الدولتين المتنافستين وأنقذت المملكة من الاعتماد بشكل حصري على واشنطن.
موقف دول الخليج العربي
وجهت دول الخليج العربي اتهامات للولايات المتحدة بالإحجام عن دعمها في مواجهة الهجمات المتكررة التي شنتها المليشيات المدعومة من إيران على منشآت السعودية النفطية وعلى الإمارات خلال العام الجاري.
وامتنعت دولة الإمارات عن إدانة الغزو الروسي في تصويت لمجلس الأمن تزعمته الولايات المتحدة.
المصدر الآخر للخلاف يكمن في جهود الولايات المتحدة إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، العدوة اللدود للسعودية. ومن شأن الاتفاق السماح لإيران بزيادة انتاجها من النفط بنحو 1.3 مليون برميل يوميا، حتى الوصول إلى مستويات ما قبل العقوبات بنهاية العام، بحسب وكالة الطاقة الدولية.
وتحاول روسيا حاليا إعاقة الجهود الأمريكية الساعية لإعادة تمرير الاتفاق. وتم بالفعل تعطيل التوصل لاتفاق مجددا أمس الجمعة.
بايدن يريد الحصول على المزيد من النفط كي يضمن بقاء أسعار البنزين متدنية للأمريكيين وتعزيز فرص فوز حزبه الديمقراطي في الاحتفاظ بسيطرته على الكونجرس خلال انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر.
وستؤدي هزيمته إلى إلحاق أضرار بشعبيته وستؤذن بعودة الجمهوريين – وربما حتى ترامب – في عام 2024.
وذهب وفد أمريكي إلى فنزويلا حليفة روسيا في خطوة لتحسين العلاقات مع الدولة صاحبة أكبر احتياطيات معروفة من الخام في العالم.
فتح صفحة جديدة من العلاقات مع فنزويلا
تعرضت فنزويلا لعقوبات دولية منذ عهد ترامب مما حد من قدرتها على بيع النفط.
وقال الرئيس نيكولاس مادورو على الطلب الأمريكي ردا على الخطوة الأمريكية إن شركة بي.دي.في.سي.أ الوطنية لانتاج النفط مستعدة لزيادة الانتاج إلى نحو ثلاثة مليون برميل يوميا.
وقال فليكس ارلانو استاذ العلاقات الدولية إن الزيارة الأمريكية غير متوقعة ومفاجئة وتعد بمثابة تغير كامل في التوجهات السياسية.
وأضاف أن الولايات المتحدة تسعى لتقييد النفوذ الذي تتمتع به روسيا والصين، وأن الزيارة تعني أن فنزويلا في طور إعادة دمجها مع الغرب عبر الطاقة.
اتسم موقف الصين بالغموض فيما يتعلق بالهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ عبرت عن قلقها بخصوص وقوع ضحايا من المدنيين وقالت إنها تدعم سيادة أوكرانيا دون إدانة أفعال الكرملين أو الانضمام الى الدول التي قررت فرض عقوبات.
وقال زهاو ليجيان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية إن الصين ستواصل التعاون التجاري المعتاد مع روسيا، بما في ذلك النفط والغاز.
وبحسب وكالة بلومبرج، تدرس الصين شراء شركات روسية مثل جازبروم أو زيادة حصصها فيها.
التنازل عن الالتزامات المناخية
وفي أوروبا، يرفض الاتحاد الأوروبي التنازل عن التزاماته المناخية بينما يسعى إلى خفض الواردات من روسيا، أكبر مورد له، العام الجاري واستبدال التدفقات القادمة منها تماما بحلول عام 2027.
لاقت هذه الجهود دعما وسط تلويح روسيا بوقف إمداداتها من الغاز المار عبر خط نورد ستريم 1 إلى أوروبا.
وقف إمدادات الغاز الروسي ستوجه ضربة قاسية على ألمانيا بشكل خاص، إذ أن الاقتصاد الأكبر في أوروبا يعتمد على روسيا في الحصول على أكثر من نصف إمداداته من الغاز الطبيعي.
لكن شولتز قال أمام البوندستاج إن هجوم روسيا على أوكرانيا يعني ” أننا دخلنا حقبة جديدة… والعالم اليوم لم يعد نفس العالم الذي ساد سابقا.”