يسعى قادة أوروبا لإنهاء القيود الكاسحة المفروضة من قبل إدارة بايدن على الصين، بينما بدأ الرئيس الصيني شي جين بينغ أسبوع جولاته الخارجية بمساعٍ لإصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة، بحسب وكالة بلومبرج.
هذا التحول في المعنويات يرقى إلى مستوى الانتصار بالنسبة إلى “شي” في جولته الثانية فقط خارج الصين منذ بدء الوباء، وهي الفترة التي شهدت تحول علاقات بكين مع الولايات المتحدة وحلفائها من سيئ إلى أسوأ.
في أكتوبر الماضي، فرض الرئيس جو بايدن قيوداً على بيع أشباه الموصلات وأجهزة صناعة الرقائق للصين في محاولة لعرقلة مسيرتها التنموية الاقتصادية، وطلب من الحلفاء الرئيسيين الامتثال لذلك، مما أثار مخاوف من حدوث انقسام في الاقتصاد العالمي.
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الجمعة الماضي إلى التواصل مع بكين ومقاومة جهود تقسيم العالم إلى كتل متنافسة. جاء ذلك في أعقاب مناشدات مماثلة من المستشار الألماني أولاف شولتز الذي زار الصين في وقت سابق من هذا الشهر، وجهود رئيس الوزراء الهولندي مارك روته للتنسيق مع الدول الرئيسية الأخرى في صناعة الرقائق في مقاومة الضغط الأميركي.
إنهاء القيود الكاسحة
قال ماكرون في كلمة ألقاها أمام مديري الأعمال في قمة منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “أبيك” في بانكوك: “الآن، وبشكل تدريجي، يرغب الكثيرون في رؤية أنَّ هناك نظامين في هذا العالم. وهذا خطأ فادح، حتى بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والصين”، مضيفاً: “نحن بحاجة إلى نظام عالمي واحد”، وهو التوجّه الذي نال استحساناً واسعاً.
هذه التصريحات من جانب الرئيس الفرنسي على وجه الخصوص تُظهر أنَّ أوروبا ترسخ أقدامها في مساعي التوصل إلى أرضية مشتركة عندما يتعلق الأمر بالصين. بينما تزايدت الدعوات في بعض العواصم الأوروبية للتشدّد مع بكين بشأن القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية؛ فإنَّ ضوابط الصادرات الأميركية الشاملة على الرقائق، والتي قد تمتد قريباً لتشمل تقنيات استراتيجية أخرى، قد أحدثت تحوّلاً في المناقشات من المخاوف بشأن الصين إلى القلق بشأن التجاوزات الأميركية.
قال نوح باركين، مدير التحرير في مجموعة “روديوم جروب” في الصين، إنَّه مع توجه ألمانيا نحو الركود، ومواجهة أوروبا لشتاء قارس من دون نفط وغاز روسيين بثمن رخيص، “هناك قدر محدود من الرغبة في المواجهة مع بكين”.
أضاف: “على الرغم من كل التصريحات حول الوقوف في وجه “شي”، وتشكيل جبهة أوروبية مشتركة والتخفيف من مخاطر المشاركة الاقتصادية مع الصين؛ فإنَّ الإجراءات التي تمت خلال الشهر الماضي كانت قاصرة. ويكمن الخطر، إذا استمر الأمر على هذا النحو، في المزيد من التصدعات في العلاقة عبر الأطلسي. إنَّنا نشهد بالفعل بعض هذه التشققات في ردّ فعل أوروبا على القيود الأميركية الأخيرة على التكنولوجيا الموجّهة إلى الصين “.
استغلال الانقسامات
سعى “شي” لاستغلال الانقسامات في رحلته التي استغرقت ستة أيام لحضور قمة مجموعة العشرين في بالي و”أبيك” في تايلندا، حيث التقى خلالهما بما يقرب من 20 زعيماً، إذ لم يقابل العديد منهم وجهاً لوجه على مدار ثلاث سنوات على الأقل. في اجتماع مع “روته” في بالي؛ حث “شي” رئيس الوزراء الهولندي على تجنب “الانفصال” لأنَّ الولايات المتحدة تضغط على “إيه إس إم إل هولدينغ” (ASML Holding NV) التي تحتكر نوعاً من الآلات اللازمة لصنع الرقائق الأكثر تقدماً.
قال “شي” لـ”روته” يوم الثلاثاء: “يجب علينا مقاومة تسييس القضايا الاقتصادية والتجارية والحفاظ على استقرار السلسلة الصناعية وسلسلة التوريد العالمية”. كما دعا الزعيم الصيني إلى زيادة التعاون في مجال التصنيع فائق التقنية مع كوريا الجنوبية، وذلك في اجتماع مع الرئيس يون سوك يول، الذي تعد بلاده موطناً لعملاقتي الرقائق “سامسونغ إلكترونيكس” و”إس كيه هاينيكس”.
في وقت لاحق من الأسبوع يوم الخميس، التقى “روته” مع “يون” خلال زيارة إلى سيؤول، إذ تعهد الزعيمان بمزيد من التعاون. وبعد ذلك بيوم، قالت وزيرة التجارة الخارجية الهولندية ليسجي شرينيماخر إنَّ الولايات المتحدة يجب ألا تتوقَّع أن تتبنى هولندا، بشكل مُسلّم به، القيود على الصادرات الصينية.
صرحت شرينيماخر، في مقابلة مع صحيفة “إن آر سي” الهولندية نُشرت يوم الجمعة: “لن تتبع هولندا الإجراءات الأميركية بحذافيرها. نحن نجري تقييمنا الخاص، ونقوم بذلك بالتشاور مع الدول الشريكة، مثل اليابان والولايات المتحدة”.
أظهرت قمة “بايدن – شي” أنَّ أكبر اقتصادين في العالم يتفهمان مسؤوليتهما في التغلب على الانقسامات، لكن ما تزال هناك مخاطر تشعب أكبر دون متابعة في المناقشات اللاحقة، وفقاً للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا.
عالم الصدمات
قالت الخبيرة الاقتصادية البلغارية لتلفزيون “بلومبرج” أمس السبت: “نحن في عالم ينتقل من صدمة إلى أخرى، جائحة وحرب وتضخم وأزمة تكاليف المعيشة. وإذا أضفنا إلى ذلك التشرذم في الاقتصاد العالمي، فسيكون ذلك بمثابة سكب البنزين على النار. ولا أحد يستفيد من ذلك الوضع”.
كذلك قوبلت إجراءات الولايات المتحدة لتقييد التجارة مع الصين بانتقادات في آسيا، فقد حذرت دول مثل سنغافورة من عزل بكين اقتصادياً. كما اعتبرت العديد من الحكومات في المنطقة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان في وقت سابق من هذا العام خطوة استفزازية لا ضرورة لها.
بدا الأمر أنَّ بايدن يتعامل مع هذه المخاوف بعد اجتماعه مع “شي”، قائلاً للصحفيين إنَّه لا يرى “أي محاولة وشيكة” من جانب الصين لغزو تايوان، وأوضح أنَّ سياسة الولايات المتحدة تجاه الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي “لم تتغير على الإطلاق”. وقال إنَّ “شي” كان “صريحاً”، مضيفاً بالقول: “أعتقد أنَّنا نفهم بعضنا”.
على الرغم من أنَّ القادة الأوروبيين الرئيسيين يقاومون بشكل متواصل الضغط المتزايد من واشنطن؛ لكنَّهم بعيدون عن التوصل إلى إجماع حول كيفية التعامل مع الصين التي تزداد حزماً. في حين وصف الاتحاد الأوروبي الصين بأنَّها منافس منهجي، إلا أنَّ السياسة على امتداد القارة ما تزال مشرذمة”.
نفوذ بكين الاقتصادي
بدأت دول الكتلة السوفيتية السابقة على وجه الخصوص تنظر إلى نفوذ بكين الاقتصادي على القارة بشكل من الريبة. وحذرت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين يوم الخميس من اعتماد أوروبا التكنولوجي على الصين، مشيرة إلى مخاطر الاعتماد المفرط على نظام استبدادي.
كما ساعد الدعم الدبلوماسي من قبل “شي” لفلاديمير بوتين، الذي غزا أوكرانيا بعد فترة وجيزة من إعلانه صداقة “بلا حدود” مع الزعيم الصيني، على تقوية الروابط بين الولايات المتحدة وأوروبا. تحرك الزعيم الصيني مؤخراً لتبديد بعض المخاوف بشأن علاقته مع بوتين من خلال تحديد خط أحمر بشأن استخدام الأسلحة النووية، وهو الخط الذي ذكره خلال اجتماعه مع شولتز، وكرّره لاحقاً مع بايدن.
إجمالاً، جعلت تصرفات شي أوروبا تفكر على الأقل في مسار وسط. في استعارة مطولة أثناء خطابه في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “أبيك”؛ شبّه ماكرون الولايات المتحدة والصين بـ”فيلين كبيرين” في الغابة.
وقال: “إذا أصبحوا متوترين للغاية وبدأوا الحرب؛ فستكون هذه مشكلة كبيرة لبقية الغابة. فأنت بحاجة إلى تعاون الكثير من الحيوانات الأخرى”.