بقلم رجائى عطية: جحا الضاحك المضحك 6

رجائى عطية

12:24 م, الأربعاء, 20 يونيو 18

رجائى عطية

رجائى عطية

12:24 م, الأربعاء, 20 يونيو 18

مرد النكتة

يصرح الأستاذ العقاد- بأن كتابة هذا الفصل كانت بعد طبع «خلاصة اليومية» بإحدى عشرة سنة، وأنه بعد كتابته بأربع سنوات عَقَّبَ على كتاب «فى المرآة»للأستاذ البشرى الذى قال فى مقدمته:

«إن مرد النكتة إلى خلل فى القياس المنطقى بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به فى حكم المنطق المستقيم. فتخرج النتيجة على غير ما يؤدى إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس… وهذا الذى يبعث العجب ويثير الضحك والطرب.فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يغرب عنك كذلك أن النكتة إذا لم تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف بحيث يحتاج فى إدراكها إلى فطنة ودقة فهم ـ خرجت باردة مليخة لا طعم لها فى مساغ الكلام».

أما تعقيب الأستاذ العقاد على مقدمة الأستاذ البشرى، فقد قال فيه ما لا أملك الاجتزاء فيه لرغبته فى أن يضع كلاًّ من المقدمة والتعقيب بنصهما أمام القارئ. قال فى تعقيبه على الأستاذ البشرى :

«إنه على صواب فى جزء واحد من أجزاء هذا التعريف ؛ وهو الذى يقول فيه إن الخلل فى القياس المنطقى مضحك وإن التزييف والتلفيق داعية من دواعى السخرية. أما الجزء الذى نراه على غير الصواب فيه ؛ فهو قوله إن النكتة على خلل فى القياس يسقطها ويلحقها بالهذر والمجانة، والذى نظنه نحن أن النكتة تضحكنا لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة وتطلعنا على سخافة العقول التى لا يستقيم تفكيرها ولا تطرد حجتها. ومن ثم تكون النكتة هى المنطق الصحيح وهى الحجة المفحمة وهى البرهان الذى يرجع بالبراهين فى معرض الجدال.

«.. وقد يسأل سائل : ولماذا تضحكنا النكتة السريعة ولا يضحكنا القياس المفصل والفضيحة المبسوطة ؟ فجواب هذا قد يوجد فى تعليل هربرت سبنسر للضحك وهو خير تعليل وقفنا عليه فى كتاب المعاصرين، ولا نقصد هنا إلاّ تعليل حركة الضحك الجسدية لا تعليل أسباب الضحك، فإن السبب الذى يذكره برجسون مثلاً رجيح صالح لتفسير كثير من علل المضحكات، ونعنى رأيه الذى يذهب فيه إلى أننا نضحك من كل تصرف فى الإنسان يشبه التصرف الآلى الخالى من التفكير، ونحن مع هذا نقول إن التماس علة واحدة لجميع الضحك خطأ لا يؤدى إلى رأى صائب، لأن الضحك وإن كان اسمه واحدًا إلاّ أنه ليس بظاهرة واحدة حتى يكون له سبب واحد.

«ونعود إلى رأى سبنسر بعد هذا الاستطراد، فنقول إن الضحك عنده ينشأ من تحول الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات. فإن من المقرر فى النفسيات أن الإحساس إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات فظهر عليها فى حركة عنيفة أو رقيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حُبس الإحساس فى طريقه فجأة بغير إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثّرًا وهى عضلات الوجه والشفتين ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله. والدليل على ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيّا كان الموحى به والباعث عليه.

فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة الهستيرية التى يفرج بها المكروب عن أعصابه المكظومة كأنما يخفف عنها بنقل شىء من ضغط الإحساس إلى العضلات… فالضحك هو الانتقال فجأة من الإحساس إلى الحركة العضلية، والنكتة السريعة تضحكنا لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة وتعجله عن انتظار النتيجة فى طريقها الممهد المألوف. ومن الأمثلة التى أوردها سبنسر للمضحكات منظر جدى يظهر على المسرح فجأة يين حبيبين يتناجيان… فإحساس النظارة هنا يمشى فى طريق الغزل وينتظر أن يمشى فيه إلى نهايته المناسبة له ويوجه الذهن إلى هذه الناحية. ولكنه لا يلبث أن يلمح الجدى على المسرح حتى يحتبس فى موضعه ويتحول على غير انتظار إلى ناحية أخرى، فيندفع الإحساس من الأعصاب إلى العضلات وتحدث نحرته التى نسميها الضحك حين يختلج بها الفم والرئتان… وفى كل نكتة شىء من هذا التحول الذى مثل له سبنسر ينجم عن المفاجأة بما ليس فى الحسبان ويتلخص فى إظهار نتيجة غير النتيجة التى تبدر إلى الذهن لأول نظرة من الشىء المضحوك منه..
«فالنكتة الصادقة هى الحجة التى تُظهر لنا فساد الأقيسة المختلفة واضطراب النتيجة التى تأتى فى غير موضعها وتلتوى على مقدماتها. وهذه هى النكات التى تفيد النفس لأنها تروح عنها وتفيد الذهن لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع وشحذ للفهم وتقويم له على المنطق السديد. ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم- خير من مائة درس فى المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه الدليل.
«وكُتّاب الأوصاف المضحكة ـ يعتمدون فى نكاتهم على ملكات كثيرة قد يناقض بعضها بعضًا وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد. فمنهم من يعتمد على ملكة السخر وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق وقد يصحبه شىء من الجد والمرارة، ومنهم من يعتمد على الدعابة وهى تحتاج إلى مرح فى الطبيعة مرجعه فى الغالب إلى المزاج لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير عظائم الأشياء وقد يستحيل الضحك فى جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو يرضى الإنسان عن نقائص الناس ويضحكه كما يرضى الوالد الشفيق عن جهل وليده الصغير، وخير هذه الملكات وأعلاها ملكة السخر يمازجها العطف، وهى عبقرية لا تقل فى اقتدارها على تجميل الحياة وتثقيف النفوس والأذواق عن عبقرية الفلسفة وعبقرية الشعر والتحلين..»

***

أما وقد أوردنا نص مقدمة الأستاذ البشرى لكتابه «فى المرآة»، ونص تعقيب الأستاذ العقاد عليه، فإنه أضاف أنه قد عَنَّ له أكثر من مرة بعد كتابة هذا الفصل «مرد النكتة» فى سنة 1927، أن يصنف كتابًا وافيًا يبسط فيه مناحى البحث عن مصادر الأحاسيس التى تمتزج بالفنون والآداب، مثل الإحساس بالجمال، والإحساس بالجلال، والإحساس بالمقدس، والإحساس بالمليح Pretty، والإحساس بما يضحك، إلاَّ أنه وجد أن الوقت يضيق عن استيعاب هذا البحث لضخامته وصعوبة مسالكه فى العربية وغير العربية، فجعل يلمس الموضوع بمتفرقات من حين إلى حين، وبدا له كلما توسع فى استيعاب آراء الخبراء ـ مثل سبنسر وبرجسون، وتواريخ هذه البحوث- بدا له أن فهم «المضحك»- كما فهمه فى أول الأمر على أنه مقابل «للمُبْكى» أو «المحزن»- بداية طبيعية لهذه البحوث، فالفلاسفة الذين تناولوه من أربعة وعشرين قرنًا إنما تحركوا من هـذه النقطـة، فوضعوا «التراجيديا» أى المأساة، مقابل «الكوميديا» أى المهزلة، وهذا هو ما فعله أفلاطون وأرسطو من بعده، واقتدى بهما كل من تصدى لفنون المسرح والشعر عامة مع قواعد الخطابة فى جميع هذه الأغراض.

يبدأ فهم المضحكات على هذا النحو الذى تغلب فيه هذه المقابلة بين الضحك والبكاء، ولكن يبدو من تفرع الضحك وتشعبه أنه تلوح فيه أفانين لا يقابلها البكاء فى كل حالة، ويُحْسب منها فى بعض الحالات.

[email protected]
www. ragai2009.com
 

رجائى عطية

رجائى عطية

12:24 م, الأربعاء, 20 يونيو 18