أقبلت الصين مؤخرًا على خفض الفائدة خلافا لتوجه الاقتصاديات المتقدمة نحو رفعها، فهل يصب الخفض الصيني في صالح الاقتصاد العالمي هذه المرة، بعد أن أدى رفعها في الولايات المتحدة وأوروبا إلى نشوء تداعيات سلبية لحقت بالأسواق الناشئة، أبرزها منها خلال خمسة أشهر متتالية من العام الجاري؟
وكتب دانيال موس مقالة في موقع بلومبرج في أبريل الماضي يستبعد فيها إقبال الصين عن خفض الفائدة وتمرير سياسة تحفيزية قوية استنادا إلى التزامها بخفض إصابات فيروس كورونا إلى الصفر.
لكن الصين خالفت ظنون موس يوم الأثنين 15 أغسطس عندما خفض البنك المركزي الصيني سعر الفائدة الرئيسي للمرة الأولى منذ يناير، فضلاً عن خفض سعر الفائدة على قروض لمدة عام بمقدار 10 نقاط أساس إلى 2.75%.
وفي إطار سعي الحكومات لتحقيق الاستقرار المنشود أثناء الركود، فإن السياسة النقدية هي خط الدفاع الأول لتحقيق هذا الاستقرار وتليها السياسة المالية التي تشمل الإنفاق والإعفاءات الضريبية، بحسب موقع صندوق النقد الدولي.
سياسة صفر كوفيد تعيق الصين عن إنقاذ العالم
وقال دانيال موس، في مقالة رأي بوكالة بلومبرج، إن توقعات النمو يجري خفضها بشكل أسبوعي وتحذيرات الركود تتوالى، تأثرا باندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير من العام الحالي، التي كانت بمثابة الصدمة الثانية التي تلت صدمة جائحة كورونا.
وأستبعد موس أن تلعب الصين دورا في إنقاذ العالم من الكساد، فعلى الرغم من أن إجمالي الناتج المحلي الصيني ارتفع بأكثر من التوقعات في الربع الأول من 2022 مسجلا نسبة 4.8%،
لكن إنهيار إنفاق المستهلكين خلال مارس يشير إلى أن الإغلاقات في شنغهاي وغيرها من المدن الكبرى تقلص قدرتها على تأدية دور المنفذ.
وأردف قائلا إن البيانات تُظهر أيضًا تباطؤ الاستثمارات وارتفاع البطالة.
الصين، بحسب موس، لعبت دورا تقليديا تجسد في تخفيف الصدمات التي تصيب الولايات المتحدة وأوروبا، لكنها بسبب كوفيد- 19 باتت عاجزة هذه المرة عن تأدية هذا الدور.
وكثيرًا ما كان تحقيق الصين مستوى أكثر استدامة من النمو محل ترحيب داخل الصين وخارجها، لكنها أضحت عاجزة عن بلوغ هذا المستوى من النمو بسبب تمسكها بتطبيق سياسة تستهدف بلوغ صفر إصابات بكوفيد- 19.
وعاب موس على الصين امتناعها عن اتخاذها إجراءات تحفيزية، مضيفا أن البنك المركزي الصيني امتنع عن خفض سعر فائدة أساسي في 15 أبريل الماضي، مما أثار تعجب المحللين.
وأقبل البنك بدلًا من هذا على خفض بقيمة ربع نقطة مئوية في كمية الاحتياطيات التي تلتزم البنوك بحيازتها.
وختم قائلًا إن المسئولين الصينيين ربما يوافقون على ضخ قدر محدود من المحفزات، لكنهم لا يحبذون ضخ الكثير منها لأن الصين تريد أن تضع سياسة تبقيها قادرة على تحمل تباطؤ طويل الأجل في النمو.
يتم النظر إلى الاستقرار الاقتصادي الصيني بوصفه مؤشر إيجابي للأسواق الناشئة، التي تعتمد بكثافة على ما تطلبه الصين منها من سلع أساسية، بحسب موقع بوندس لونز دوت كوم.
تراجع التضخم في الصين ميزة كبرى
تحتفظ الصين بميزة ليست متوفرة في الاقتصاديات المتقدمة، إذ أن معدلات التضخم الأساسية لديها يسهل ترويضها كثيرًا، في ظل تباطؤها إلى 0.8% في يوليو.
تملك الصين بذلك الذخيرة التي تمنحها حرية اللجوء لخيار خفض الفائدة.
هذه الميزة لا تمتلكها الولايات المتحدة ولا أوروبا اللتان تضطران لرفع الفائدة بغية التصدي لمعدلات التضخم المرتفعة هناك.
أضحت الصين لذلك مستعدة لاتخاذ إجراءات تفضي إلي تلبية أهدافها، مثل المحافظة على استقرار عملتها ودعم النمو والحد من المخاطر المالية.
ويتبنى البنك المركزي الصيني نهجا حذرا يمنعه من اتخاذ إجراءات تيسيرية أكثر جرأة، خوفا من أن تتسبب في تدمير الاقتصاد على المدى الطويل في ظل مستويات الدين المرتفعة الحالية.
وصدرت، بحسب تقرير لوكالة بلومبرج، مطالبات من اقتصاديين ووسائل إعلام صينية لتمرير قدرا أكبر من التيسير النقدي عبر إدراج خفض أكبر في الفائدة حتى يتسنى لها تهدئة حدة المخاوف بخصوص العقارات والتباطؤ الناجم عن جائحة كوفيد-19.
وفي الصفحة الافتتاحية لموقع فاينانشال نيوز المدعوم من البنك المركزي الصيني، قالت هيئة التحرير إن بكين ينبغي عليها طرح سياسات جديدة داعمة للنمو في الوقت المناسب لضمان بقاء النمو داخل نطاق معقول، مستشهدا بتصريح صدر عن وين بن كبير الاقتصاديين لدى تشينا مينشنج بنك.
وقالت صحيفة ذا سيكيوتز تايمز في تقرير منفصل إن القرار المفاجئ لبنك الشعب الصيني بخفض الفائدة يوم الأثنين الماضي ربما يكون الأول ضمن سلسلة من السياسات التي تقود إلى جعل النمو مستقرا.
توقعات بخفض آخر في الفائدة
وقال لو تنج من بنك نومورا هولدنجز إنه يفضل وصف قرار الصين بخفض الفائدة 10 نقاط أساس بأنه ” قليل للغاية ومتأخر للغاية.”
وتوقع تنج إقبال بنك الشعب الصيني على تمرير خفض آخر الأسبوع القادم في سعر الإقراض الاسترشادي القائم.
وأردف تنج أنه حتى في حالة إقرار هذا الخفض المتوقع، فإنه لن يكون كافيا.
وعلى الرغم من أن الدعم الذي تقدمه السياسة النقدية قد بلغ حجما يعادل ذلك الذي تحقق عام 2020، فمن المطلوب تمرير المزيد من الدعم، خصوصا أن الاقتصاد يعاني حاليا من ضعف أكبر، بحسب خبير اقتصادي لدى شركة بنج أن سيكيورتيز.
ويتوقع دنج شوانج من بنك ستاندرد استاندرد أن يتم تمرير خفض آخر يصل إلى 10 نقاط أساس في أسعار الفائدة بنهاية أكتوبر القادم.
ومن المتوقع، بحسب وانج تاو من بنك يو.بي.اس، أن تواصل الحكومة الصينية زيادة دعم السياسة النقدية طيلة الفترة المتبقية من 2022. وتستند هذه التوقعات إلى استمرار القيود المرتبطة بمكافحة كوفيد- 19.
لحم الخنزير وراء تراجع التضخم في الصين
يقفز التضخم العالمي، مع صعوده في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياته خلال أربعين عاما، جراء ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا، بحسب موقع إس.سي.أم.بي.
لكن التضخم في الصين ظل ضعيفا نسبيا، بفضل المحفزات المحدودة التي دشنتها أثناء الجائحة، جنبا إلى جنب مع وزن السلع والخدمات داخل سلة المؤشر الصيني لأسعار المستهلك .
وفي الصين، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 2.0% في مايو مقارنة بذات الفترة من العام الماضي ودون تغير يذكر مقارنة بشهر أبريل. لكنه لا يزال عند أعلى مستوياته خلال ستة أشهر، وهو ما يعكس ارتفاع أسعار النفط الخام والمنتجات الزراعية و واردات المواد الخام.
ومقابل هذا، ارتفع التضخم إلى أعلى مستوياته خلال أربعة عقود في الولايات المتحدة عند 8.6% و 8.1% في منطقة اليورو. وصعد التضخم في بريطانيا إلى 9% في أبريل.
وتحقق الصين الاكتفاء الذاتي من الغذاء لحد كبير، لكنها منتبهة إلى التضخم المستورد من الخارج الناجم عن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام عالميا.
مخاوف من اندلاع اضطرابات اجتماعية
وبينما تعطي الصين وزنا أكبر للملابس والغذاء ضمن مؤشر أسعار المستهلك، وهو ما يلائم وضعها كدولة ذات مستوى دخل فوق المتوسط، فإن الولايات المتحدة تهتم أكثر بالمساكن والمواصلات، وكلاهما يتأثران بأسعار الطاقة العالمية والظروف النقدية المحلية.
ويعتمد الاقتصاد الأمريكي بكثافة على واردات المنتجات الاستهلاكية، بينما تمتلك الصين بفضل قدراتها الصناعية الضخمة فرصة أكبر لتحمل ارتفاع أسعار السلع عالميا.
تراجع التضخم في الصين يرجع جزئيا أيضا إلى خفض الطلب المحلي الناجم عن سياسة صفر كوفيد التي يتم اللجوء إليها لاحتواء انتشار سلالة أوميكرون منذ مارس الماضي.
أسعار لحم الخنزير تلعب دور كبير في دورات تضخم أسعار المستهلك، إذ يصل وزنها داخل سلة مؤشر أسعار المستهلك إلى 2.4%.
تراجعت أسعار لحم الخنزير التي تعد الوجبة الغذائية الأساسية للصينيين بنسبة 37% خلال الأشهر الخمس الأولى من 2022 مقارنة بذات الفترة من العام الماضي.
وتحرص الصين على خفض معدلات التضخم لأنها لعبت دورا في إندلاع حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي في الماضي.
قال بنك تشينا انترناشونال كابتل كوربوريشن إن التضخم في الصين يتأثر غالبا بالارتفاعات السعرية الناجمة عن الحرب الأوكرانية وتراجع الطلب الخارجي وتعافي اليوان.
وتابع البنك: ” على المستوى المحلي، سيسهم ارتفاع أسعار لحم الخنزير والتعافي الاقتصادي في رفع أسعار المستهلك، لكن المستوى الأوسط سيظل معتدلا.”
ويتوقع البنك تسجيل التضخم السنوي نسبة 2.1%، وهو ارتفاع لا يزال داخل نطاق تحمل الحكومة.
الركود التضخمي يحل على العالم
قال البنك الدولي في تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية في يونيو الماضي إن الغزو الروسي لأوكرانيا – إلى جانب الأضرار الناجمة عن جائحة فيروس كورونا (كوفيد- 19) – قد أديا إلى تفاقم التباطؤ في وتيرة الاقتصاد العالمي، الذي بدأ يدخل فترة يمكن أن تصبح طويلة من النمو الضعيف والتضخم المرتفع.
ومع زيادة مخاطر الركود التضخمي، والذي من شأنه أن يتسبب في عواقب محتملة الضرر على الاقتصادات متوسطة ومنخفضة الدخل على حد سواء، خفض البنك توقعات النمو العالمي بقوة إلى 2.9 % في عام 2022 – وهي نسبة أقل بكثير من النسبة التي كانت متوقعة في شهر يناير والبالغة 4.1 %، مقابل نمو عند 5.7 % في عام 2021.