بشير الجْمَيْل - الحلم والكابوس

بشير الجْمَيْل - الحلم والكابوس
طارق عثمان

طارق عثمان

6:50 ص, الأحد, 18 سبتمبر 22

بشير الجميل كان رئيس لبنان لـ21 يومًا، إلى أن اغتيل قبل 40 سنة بالضبط من مجموعات من اللبنانيين، بشير كان الحلم، كان تجسيدا للطموح الذى قامت عليه دولة لبنان الكبير منذ مائة عام تقريبًا، لكن لمجموعات أخرى من اللبنانيين بشير كان الكابوس، كان تجسيد الكارثة التى علقت فى جوهر دولة لبنان الحديث.

لاشك أن تقسيم المجموعات هنا فيه، إلى حد بعيد جدًا، بُعد طائفي، أى أن المجموعات التى ترى فى بشير الحلم أغلبها مسيحية والمجموعات التى ترى فيه الكابوس أغلبها إسلامية. لكن التقسيم ليس طائفيًا فى المطلق. هناك مجموعات مسيحية – بما فيها من الموارنة – ترى فى بشير مشكلة، وترى فى مشروعه كارثة، كما أن بين مسلمى لبنان من يرى فى مشروع بشير مقدمات دولة قادرة على العيش والفعل، وليست ذاهبة بالضرورة إلى صراعات داخلية، إما مكتومة تشل البلد وإما علنية تحمل خطر الانزلاق إلى عنف.

بشير وُلِد لأسرة مارونية ذات وزن، ووالده بيير الجميل كان فى منتصف القرن العشرين واحدا من أهم السياسيين الموارنة.

كلمة”المارونية” قد تبدو غريبة على آذان الكثيرين خارج لبنان. لكن الموارنة، وهم أقرب المسيحيين الشرقيين للكاثوليك الغربيين، طائفة شديدة الخصوصية – ولعل تاريخها المعقد المتراكم فى أعالى جبال لبنان، بعيدًا عن الغالبيات الإسلامية فى الوديان والسواحل، أعطاها من الثقة والقدرة على المجابهة، وأعطاها من الإيمان بأنها صاحبة أرض مقدسة حباها المسيح بقدسية خاصة، قدر ما أعطاها من القلق من أن الطائفة محاطة بتيارات واسعة من المسلمين فى كل الشام.

لحظة السبعينيات كانت من تلك التى زاد فيها القلق المارونى على المستقبل. والسبب أنه بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بعد الحرب بين المنظمة والجيش الأردنى (الحرب التى عُرفت بأيلول الأسود)، استوطنت المنظمة لبنان. كلمة استوطنت مقصودة لأن المنظمة جاءت بمجموعات بشرية كبيرة وبأسلحتها الخفيفة والثقيلة وتلاقت مع مجموعات عملاقة من اللاجئين الفلسطينيين الموجودين فى لبنان منذ عقود قبل ذلك. وربما الأهم من كل ذلك، أن الوجود الفلسطينى المسلح والديمغرافى تلاقى مع فكر واحد من أهم (وأرقى) العقول اللبنانية فى القرن العشرين – كمال جنبلاط، وهو غير كونه الزعيم الدرزى الأهم فى لبنان فى زمنه، كان فيلسوفا استطاع مزج خلاصات مدارس فكرية مختلفة، من الهندية الروحية إلى الإسماعيلية الإسلامية. تحالف المنظمة مع كمال جنبلاط أعطاها وزن، وجعل وجودها مركز جذب للعديد من التيارات اليسارية فى لبنان وكل الشام.

وقتها استشعر أغلب مسيحيى لبنان، خاصة الجزء الغالب من الموارنة، خطرا اعتبره بعضهم وجوديا. وقد كان ذلك الإحساس، مع الطموحات الفلسطينية فى السيطرة على مناطق واسعة من لبنان، فى قلب بدايات الصراع الذى تحول إلى الحرب الأهلية فى لبنان.

فى لحظة معينة من السنوات الأولى للحرب بدا أن كمال جنبلاط، بمساعدة فلسطينية، على وشك إلحاق هزيمة تكاد تكون ساحقة بالمعسكر اليمينى فى لبنان، ، فى قلبه الجزء الأكبر من الموارنة. لكن الذى حدث أن الرئيس حافظ الأسد فى سوريا رفض بشكل قاطع السماح لكمال جنبلاط بالحصول على نصر كامل – وقد كان حساب حافظ الأسد أن هزيمة الموارنة ستُغير التركيبة الرئيسية فى لبنان، وفى ذلك ضياع البلد التى كان الأسد يراه كشبه مقاطعة سورية – ولعله كان هناك حساب آخر فى عقل حافظ الأسد متعلق بتوازنات فى سوريا نفسها.

فى تلك اللحظة والموارنة على حافة ما رأوه كخطر مهول برز بشير الجمَيْل كالزعيم المارونى الأهم، متفوقًا على وآخذًا القيادة من زعماء كانوا أكبر منه سنًا بعقود وأكبر منه مقامًا بكثير، منهم مثلًا كمال شمعون وهو رئيس لبنانى سابق كان فى زمنه فى الخمسينيات والستينيات من أهم سياسيى الشرق الاوسط (وأقربهم للولايات المتحدة).

بشير أخذ المسئولية – تحدث و خطب و نظم و جمع المال و السلاح و حارب و قَتل – و قد كان ممن قُتِلوا زعماء من المسيحيين الموارنة أنفسهم. لكن الخطوة الأهم التى أخذها بشير كانت الوصول إلى تحالف مع إسرائيل كان أساس العملية التى قام بها آرييل شارون (الجنرال الشهير و رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد) و تطورت لتصبح احتلال إسرائيل لأجزاء كبيرة من لبنان بما فيها بيروت نفسها.

فى نظر البعض بشير استغل إسرائيل من أجل كسب معركته ضد أعدائه و أولهم منظمة التحرير الفلسطينية، لكن فى نظر أخرين، بشير ارتكب الخطيئة الكبرى فى دنيا السياسة العربية وقتها.

الملفت للنظر أن نظرة إسرائيل نفسها لبشير مليئة بالجدل. فى نظر الجنرال شارون، بشير كان صديقًا خاصًا له و لإسرائيل. من ناحية أخرى، عدد من ضباط الموساد الذين تخصصوا فى لبنان نظروا لبشير كمجرد عميل، و قد كان لبعضهم أراء قاسية فى أخلاقه.

اغتيال بشير بعد أن أمنت له إسرائيل انتخابه كرئيس للبنان، قضى على مشروعه، نحن لا نعرف كيف كان سيحكم إذا قُدِر له أن يعيش. لكن هناك مؤشرات جادة أن بشير رأى أنه قادر على إخراج لبنان من دوامات الدم و الدوران فى نفس المكان، و أنه كان على قناعة بأنه قادر على تطوير الفكرالمارونى ليقبل بلبنان أبعد من المارونية السياسية الضيقة، كما أنه غالبًا تصور نفسه قادرا على الوصول إلى اتفاقات قابلة للحياة مع الطوائف الإسلامية فى البلد، و مع الدول العربية وراءهم.

لكن الرجل قُتل. و فى رأى البعض كانت دماؤه ثمنًا لدماء أخرى كثيرة سُفِكت، بينما فى نظر أخرين، كان موته شهادة من أجل مشروع يراه كثيرون من الموارنة كجوهر معنى لبنان.

يبقى أن فهم تجربة بشير الجمَيْل ضرورية لفهم المشكلة اللبنانية، ليس فقط فى جوانبها السياسية المختلفة، و لكن أيضًا فى أعماقها حيث الأحلام والكوابيس راسمة لوحة فيها من الجمال بقدر ما فيها من الرعب.

* كاتب مصرى مقيم فى لندن