بريطانيا قلقة

طارق عثمان

7:35 ص, الأحد, 14 يوليو 19

طارق عثمان

طارق عثمان

7:35 ص, الأحد, 14 يوليو 19

الصيف فى بريطانيا قصير، لكن جميل. لكن هذا العام، هناك ضباب على الجو العام للمجتمع.
عملية الخروج من الاتحاد الأوروبى (البريكست) و انتخابات قيادة حزب المحافظين الحاكم فتحتا ملفات كثيرة، وأجبرتا الكثيرين على النظر بعمق فى حالة المجتمع البريطانى.

و الواضح لأى ناظر أن هناك أسئلة مؤرقة.
واحد: أنه بعد عقد كامل منذ الأزمة المالية فى 2008، فإن سياسات التقشف لا تزال مستمرة. وبغض النظر عن الوضع المالى الجيد للخزانة البريطانية، فإن درجات الفقر (فى التعريف البريطانى) لا تتحسن. والأهم، أن الفرق التنموى التاريخى بين ثراء الجنوب البريطانى (وقلبه جنوب شرق إنجلترا، بما فيه لندن) وبين الشمال (وفيه بقايا المناطق الصناعية الإنجليزية والاسكتلندية) فى ازدياد. وهذا الفرق التنموى بدأ يعبر عن نفسه سياسياً بشكل جديد. مثلاً، بينما كان فى الماضى الشمال أكثر ميلاً للتصويت لحزب العمال، الآن هناك رفض واضح بين طبقات واسعة فى الشمال لكل الهيكل السياسى فى البلد. وقد يبدو هذا متماهياً مع الغضب الظاهر فى الكثير من المجتمعات الأوروبية. لكن، بريطانيا، وإنجلترا بالأخص، كانت، لقرون، ذات وضع خاص، بالنظام السياسى و الاجتماعى الأكثر ثباتاً فى كل أوروبا.

اثنان: الخروج من الاتحاد الأوروبى يفرض على بريطانيا إعادة النظر فى علاقاتها بكل الدول الأكبر (سياسياً) فى العالم: الولايات المتحدة، الصين، و روسيا. مع الأخيرتين، وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبى، مع علاقتها الخاصة بالولايات المتحدة، أعطاها مساحة حركة واسعة، استطاعت فيها ان تعظم مصالحها دون أن تتبع الخط الأمريكى دائما، وفى الوقت نفسه أعطاها حائط صد استطاعت بريطانيا أن تستتر خلفه. ولذلك فى الكثير من المرات و الملفات، بدا الصوت البريطانى مدوياً دون أن يفرض ذلك على بريطانيا فعلاً يوازى القول.

خارج الإتحاد الأوروبى، بريطانيا تقف إما وحيدة أو كحليف متميز، لكن صغير جداً، مقارنة بالولايات المتحدة. وفى الحالتين مشاكل. فى الحالة الأولى، إنجلترا مضطرة لتغليب مصالحها الاقتصادية على أغلب مبادئها السياسية. فى الحالة الثانية، هى مضطرة لقبول القرار الاستراتيجى الأمريكى فى أغلب الملفات.

ثلاثة: بريطانيا تخرج من إطار الاتحاد الأوروبى بينما مؤسساتها التاريخية تمر بلحظات انتقالية. الملكية تنظر للحظة انتقال التاج من الملكة إليزابيث إلى الأمير تشارلز. والفارق بين الشخصيتين كبير، كما أن الأمير قد أبدى لعقود استعداده للدخول فى بعض تفاصيل السياسية البريطانية، وهذه منطقة حساسة فى العلاقة بين البرلمان و القصر.

هناك أيضاً انتقالان على قمة الحزبين الكبيرين، المحافظين والعمال. الأول يبحث عن معنى جديد «للمحافظة» فى مواجهة اليمين المتشدد الصاعد. والثانى (العمال) يمر بحرب أهلية بين تيار يبعث أفكار الحزب فى السبعينيات والثمانينيات، يقوده رئيس الحزب الحالى چيريمى كوربن، فى مواجهة من ظنوا أنهم طوروا الحزب، فى التسعينيات وبداية الألفينات، ليصبح صورة بريطانية من الحزب الديمقراطى الأمريكى (وهؤلاء مجموعات كانت قريبة من رئيس الوزراء السابق تونى بلير).

حتى الكنيسة الإنجيليكية، وهى من قوائم الفكرة والهوية البريطانية، تمر بمعضلة. من ناحية، التيارات الأقوى فيها ليبرالية الهوى. من ناحية أخرى، بُعد الكنيسة التدريجى عن اللاهوت التقليدى وأحكامه يُفقدها تأثيرها التاريخى والمهم فى مناطق كثيرة فى العالم، خاصة فى أفريقيا.

أربعة: ليس هناك الآن مشروع فكرى واضح أمام بريطانيا …الدور المؤثر الذى لعبته بريطانيا من الخمسينيات إلى الثمانينيات فى المناطق المهمة من الإمبراطورية القديمة (مثلاً فى شبه القارة الهندية أو شرق آسيا) لم يعد ممكناً اليوم. دور الحليف الصغير، لكن الذى يسوق فِكْر الحليف الكبير (الولايات المتحدة) أيضاً لم يعد ممكناً اليوم، مع التشعب الرهيب للعمل وأدوات العمل) السياسى الأمريكى فى العالم. حتى مشروع تونى بلير وخلفه جوردن براون، وفيه بريطانيا لاعب رشيق على مسارح دولية مختلفة، من الأنجلوساكسونية إلى الأوروبية إلى الآسيوية، من الصعب جداً بعثه الآن، فى ظل اللحظات الانتقالية المتعددة داخل المؤسسات البريطانية الكبرى، خاصة أن لتلك الانتقالات تداعياتها على عمل الهيكل الإدارى للحكومة البريطانية.

كل ذلك يؤثر فى ديناميكيات صنع القرار البريطانى، البادى الآن بطىء وأحياناً متوتر.…ولذلك، فبالرغم من الشمس والنسيم فى حدائق لندن، وخروج سكان الريف الإنجليزى والأسكتلندى للطبيعة، فإن رياح الخريف بادية فى أفق بريطانيا.

* كاتب مصرى مقيم فى لندن

طارق عثمان

طارق عثمان

7:35 ص, الأحد, 14 يوليو 19