بأول زياراتى لأمريكا 1980، ابتسم د. أشرف غربال سفير مصر بأمريكا قائلا: «وانت بعيد بتكتشف إن مصر كبيرة وعظيمة جدا يا محمد، خليك واعى وشيل جواك نظارة مُعظمة تشوف تفاصيل الصورة الكبيرة! هتعرفها وتحبها بموضوعية»
اتبعت النصيحة لمدة 41 عاما بعد مصر السادات، فعاصرت مصر مبارك لمصر 25 يناير، لمصر السيسي. وبرحلتى الأخيرة لأوكرانيا لأسبوعين، كانت النظارة المُعظمة لا تفارق 3 محاور؛ مصر البلد، مصر السيسي، ومصر إدارة السيسي!
كبلد، فمصر محاطة دوليا بحزمة أزمات ككورونا، سد النهضة واستعادة المواقف مع السودان والترتيبات الأفريقية، مناوآت الإخوان داخليا وخارجيا، محاولات تركيا لعودة الإمبراطورية العثمانية بروح غربية ومناوشاتها بليبيا والغاز بالبحر المتوسط، أحابيل أولاد العم للاستفادة من تفككات الشرق الأوسط الجديد، إعادة ترتيبات البيت السعودى الحليف الاستراتيجى ودوره مع إيران، واقع ومستقبل تسويات وإعمار سوريا والعراق وليبيا، تأثير التطبيع الإماراتى الإسرائيلى باقتصاديات الشرق الأوسط، الجولة الثانية المطورة لربيع عربى جديد يستفيد من أنقاض المحاولة الأولي.
كبلد، فمصر داخليا تصارع أزمات لا تقل عن الخارجية! تركة منهكة بالبنية التحتية، وعى شعبى متناقض بين السطحية والرفض والتمرد والاستسلام للتفسخ، حالة كورونا وتداعياتها الصحية والاقتصادية والسياحية والاجتماعية، تخبط وتشتت سياسات التعليم وأثرها بالأسرة المصرية، سحب وتقليص الدعم مقابل حرج اقتصادى حول الدخل والموارد والضرائب والرسوم، إعادة تصميم الإدارة المالية لتعامل المواطن مع مرافق الدولة بمنطق الغُنم بالغُرم، استمرار نتوءات الوضع بسيناء، رحيل وتقوقع زخم من القامات السياسية والأدبية والثقافية والفكرية والفنية وفراغ وتسطح الساحة الحالية وعدم نضج الصغير أو استكمال تفريخ الجديد، طلاق المال من السلطة وإعادة تشكيل الدولة لإدارة المشروعات الكبري، جدليات الدولة الدينية والعلمانية، تطور أخلاقيات فلول 25 يناير، حرس قديم مصمم لفرض وجوده، ضعف إحساس المواطن بمشاركته ببناء وطن جديد لا يجد لنفسه مكانا به.
هكذا رصد منظارى المُعظم مصر كبلد داخليا وخارجيا، من واقع اقتصدت باستحضار أزماته الرئيسية، ورغم كل ذلك فمعرفة مصر حاليا لن تتاح لنا بموضوعية إلا برؤيتها من الخارج وسماع تعليقات الشعوب عليها فى 2021 !؟ هنا من الأنصاف أن نستدعى «مصر السيسي» بصورتها الذهنية المستجدة بعيون العالم! أسمع التعليقات بأوكرانيا، أمريكا، تركيا، فرنسا، ألمانيا، الخليج، سوريا ولبنان وليبيا، الهند، روسيا، دول أفريقيا ..إلخ كل الشعوب ـ وليس إدارتها ـ تتمنى قيادة كالسيسي، استنهضت خلال 7 سنوات بلدا خُطط له أن ينقض! المقام ليس توثيقا جديدا لأعمال جادة توصف بإنجازات، ولكن رؤية المنظار المُعظم لواقع ملموس يمخر ببطء ببحار من الأزمات الدولية والداخلية! لا يجوز الانتقاد والتشكيك والرفض وتسويق الهجوم والسلبيات على إنترنت مستقر، بكهرباء لا تنقطع وطعام متوفر وأدوية ناجعة! غير منصف الشكوى والتبرم من شبكة طرق وكبارى وقطارات ومطارات قتلت الزحام والاختناق واستعادت قيمة الزمن! غير موضوعى الاتهام بالاستئساد والسيطرة والصرامة وقد أصبحت بلدا مرهوب الجانب عسكريا وأمنيا! غير أمين الصراخ بالدين العام وسوء التخطيط وبذخ العاصمة الإدارية ولديك قناة سويس جديدة وقهرت فيروس سى وأكبر متحف مفتوح بالعالم و13 مدينة جديدة وأكبر صوامع قمح عالميا وسحارات مياه وعشرات المشروعات الصناعية والزراعية والصحية الموثقة رسميا وبالإنترنت، بزمن تتهاوى فيه وتتفكك دول ويعانى شعوبها افتقاد الأمن والاقتصاد والصحة والتنمية والاستقرار.
كل ذلك لا يُنسب فقط لشخص السيسي، ولكن لقيادته ورؤيته وحزمه لإدارة مصر وحمايتها كجغرافيا وتاريخ وموارد ومرافق ومشروعات ومستقبل. سيرتبط بالسادات لقب بطل الحرب والسلام، وبمبارك لقب حافظ الاستقرار، ولكن السيسى سيكون رائد مصر الحديثة. مصر السيسى تجاوزت مصر محمد علي، ويرتب التاريخ ملفاته لذلك.
وكما مصر السيسى تتعامل بمنهج الغُنم بالغُرم، فإدارة السيسى كذلك! كل الإنجازات وليدة سواعد مصريين ونتاج عرقهم وكفاحهم، وهم أنفسهم (زمنيا ووظيفيا كانوا بالعهد السابق) ولكن اختلاف القيادة والأهداف وقدرة التنفيذ ومتابعته، هى ما أطلقت الفراعنة بداخلهم، فنحن نغنم وطنا جديدا وحتما يغرم جيلنا صرامة وحزم ومثابرة وسيطرة مدروسة، فلأول مرة يكون لشد الحزام نتائج ملموسة!
وكما لمصر السيسى إنجازات، فمصر إدارة السيسى (أى أجهزتها الإدارية والإدارة الوسطي) تحتاج إنعاشا وتجديدا وتطويرا وبثا لروحها الجديدة فيها. ونظرا لكون الإدارة ترتبط بالبشر، فطبيعى نجد التشتت والموتور والحرس القديم والفكر الإخوانى والسلفى والأيادى المرتعشة وفلول الفساد. تطهير الإدارة من أهم الإنجازات القادمة تدريجيا، والوعى الجمعى المُصحح يتشكل ويتكون ببطء ويحتاج إعلاما برسالة ورؤية جديدة، فصورة مصر الجديدة تُفرض بقوة ولو كره الرافضون والمناوئون.
مصر السيسى باستثماراتها المليارية، وسياساتها واستراتيجياتها البانورامية، وبعسكريتها الرادعة، وبقياداتها المنضبطة، لا ولن يؤثر فيها بغبغباوات الرفض والتشكيك والتصغير والتشتيت. ما يجرى ماديا قابلا للمراجعة والمقارنة والتوثيق والاستمرار، أما البغبغاوات فلها عمر افتراضى سينتهى تحت مصاطب التجديد والقوة. ومصر السيسى لن تتورط بحروب غير محسوب عواقبها أو يزج بها غرور قوة مزيفة! وسيُدرس بكليات الاستراتيجية العالمية تمرين سد النهضة، كأقوى ردع بالقرن 21، فاق أزمة خليج الخنازير بكوبا!
مقولة د. غربال كانت نبوءة من 40 عاما .. (خليك واعى وشيل جواك نظارة مُعظمة تشوف تفاصيل الصورة الكبيرة! هتعرفها وتحبها بموضوعية) ولذلك فأنا أعيش وأفكر مقررا بأن مصر مش السيسى فقط، ولكنها حقبة الغُنم بالغُرم والتفاعلات العبقرية والقدرية لبوتقة خالدة.
حمى الله مصرنا.
* محامى وكاتب مصرى