شخصية المهرج أو البهلوان غنية…الوجه المغطى بالأصباغ بحيث نرى شكله العام، لكن تغيب عنا تفاصيل الملامح…الحركات السريعة والصوت العالى الذى، فى الظاهر يُضحكنا، لكن أحيانا كثيرة يضحك علينا، أو يُضحكنا على أنفسنا…هذه الملامح للشخصية جعلت المهرج مادة خصبة لفنانين عديدين، من شكسبير فى القرن السادس عشر إلى تود فيليپس الآن (وبينهما لدينا يوسف إدريس، بمسرحيته الشهيرة «البهلوان»).
فيلم تود فيليپس الأخير «المهرج» حقق إيرادات قياسية فى فترة قصيرة، لكنه أيضاً أثاراً حواراً اجتماعياً فى الغرب الأنجلوساكسونى، خاصة فى الولايات المتحدة.
ذلك الحوار دار حول نقطتين:
الأولى – فكرة الخروج من المجتمع…المقصود هنا الزيادة الواضحة لهؤلاء الذين فقدوا أى فرصة حقيقية للوجود فى الهيكل الاقتصادى لتلك المجتمعات، بشكل يوفر قدراً معقولاً من الأمان ضد الفقر. هذه المشكلة ظاهرة بوضوح فى بريطانيا وأمريكا، حيث النظام الأنجلوساكسونى المعتمد على أشد نماذج الرأسمالية. غياب الأمان ضد الفقر، خاصة فى الولايات المتحدة حيث أيضاً يغيب نظام تأمين صحى عام يعتمد عليه، خلق موجة من الغضب المكتوم فى هذه المجتمعات التى تعودت لعقود طويلة على الإحساس بالأمان الاقتصادى، وأن الغد أفضل من البارحة. ولعل أوضح تعبير عن هذا الغضب – وربما فى جوهره خوف – هو الانعزال.
فى فيلمه الذكى، تود فيليپس يأخذ هذا الإنعزال إلى آخر المطاف، إلى مرحلة رفض الأطر التى تحكم هذا المجتمع، ثم إلى رفض القيم التى يقول هذا المجتمع إنها جوهر فكره، وأخيراً، يصل هذا الانعزال إلى الرفض الفاعل، أى العمل على إسقاط المجتمع، أو على الأقل، العمل على معاقبته. الفيلم، مثله مثل أى عمل درامى، يخاطب بالأساس الخيال وليس المنطق الاجتماعي-السياسى. أى أن القفزات التى يصورها الفيلم فى فكر وعمل البطل قد تبدو خارجة عن المعقول. لكن هنا تأتى رخصة الدراما أن تأخذنا إلى غير المألوف…والأهم، هنا تأتى الفكرة الرئيسية: أن الزيادة الواضحة فى هؤلاء الذين فرض عليهم الواقع الاقتصادى الخروج من المجتمع، هؤلاء الذين تولد لديهم رفض مهول للمجتمع أصبحوا من حيث العدد على وشك أخذ المجتمع بأكمله إلى اللا معقول…و جزء من هذا اللا معقول سوف يكون تعبيرات عنف.
النقطة الثانية – فكرة تقبل المجتمع لاستخدام العنف…هذه نقطة حساسة فى العالم الأنجلوساكسونى، لأن هذا العالم وضع مبادئه الاجتماعية والسياسية على أُسس الثورة الإصلاحية التى أعقبت ظهور الفكر الپروتستانتى فى المسيحية، والتى رسخت الحرية كعماد رئيسى فى ذلك العالم…الحرية فى الاعتقاد حتى وإن خالف المبادئ الكنسية، الحرية فى الفكر حتى وإن تعارض مع المتعارف عليه فى المجتمع، والمهم هنا: الحرية فى العمل بدون سيطرة للدولة على تصرف الفرد: أى حرية الإنسان فى فِعل ما يريد، ما دام ذلك لا يتعارض مع القوانين (وهى فى التجربة الأمريكية والبريطانية، خاصة، محدودة، عن عمد). وعندما يأتى الأمر إلى حرية التصرف، خاصة فى الولايات المتحدة، هناك مكان خاص للحق فى استخدام العنف للدفاع عن النفس والممتلكات (وهو حق فضفاض فى الدستور الأمريكى، وواسع فى قوانين أغلب الولايات المتحدة).…كل ذلك يخلق مشكلة: وهى المساحة المتروكة لفكرة الحق فى استخدام العنف بمجتمع بدأت تظهر فيه مجموعات واسعة خارج إطاره الاقتصادى، وتدريجيًا بدأت تظهر داخلها موجات غضب.
المُهرج ليس تحليلًا أنثروبولوجياًّ لما يمكن أن يحدث فى المستقبل فى أمريكا. كما إنه، لا شك، ليس محاولة لدراسة قوانين أو تشريعات معينة. الفيلم ليس أكثر من لمحة خيال تغوص فى عمق شخصية، فى تصرفاتها النابعة من مخاوف وإحباطات، والأهم، الفيلم لمحة خيال لكيف يمكن أن يقبل مجتمع ما أفعالاً يمكن أن تشكل خطراً، ليس فقط على أمنه، ولكن أيضاً على فهمه لنفسه.
لكن، أحياناً لمحات، أو حتى شطحات الخيال، بما فيها من خروج عن المنطق، تكون اذكى التحذيرات.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن