دائما؛ مفهوم الانتخابات يحتم المفاضلة بين مرشحين، بيد كل منهم صحيفة علاقته بمصر! محصلة ماضيه فيها وحسابات حاضره معها وخطط مستقبله لها. مدى شفافية وموضوعية ومصداقية واستيفاء المرشح لهذه الصحيفة هى الامتحان الحقيقى لوعى وقرار الناخب فى التسابق على الصندوق لإعلان خياره الموجب لاستمرار دعمه. بدون صحيفة المرشح وتبصير موضوعيّ كافٍ للمنتخبين، فالأوقع ترجيح نظام التزكية، حفظا لاعتبارات متعددة.
المبادئ الأساسية فى قواعد الانتخابات هى صحة الانتخاب، نسبة التصويت، فرز الأصوات، الالتزام الكامل بالنتيجة بغض النظر عن التحفظات أو الاعتراضات أو الامتناع عن التصويت أو طلبات إبطالها. الفكرة أنه طالما اعتمد تولى الحكم أو صناعة القرار على نظام التصويت، فمن مصلحة المنتخب عليه أن تكون هناك ضمانات لحرية الترشح والانتخاب ونزاهة النتائج، حتى يكون استمرار المصالح الوطنية واجبا عاما مجردا.
على صعيد آخر؛ هناك ما يعرف بالمناخ الصحى للانتخابات، أو حالة عناصر الحياة اليومية فى بلد الترشح. فهناك العنصر الاقتصادي، الوضع الاجتماعي، درجة وعى وتأثر الشارع بالثقافة والدين والتعليم والفن والسياسة، العلاقة بين الإدارة والشعب وقنوات التواصل بينهما، أمن وأمان البشر والحجر والتاريخ والجغرافيا، وأخيراً عنصر الزمن الذى تسرى فيه العناصر السابقة على التوالى أو التوازي، من خلال هذا المناخ يكون المنتخبون قادرين عمليا على قراءة وتقييم صحيفة كل مرشح، وتكوين قرار انتخابه كنتيجة لهذا التقييم والاطمئنان لتقديمهم له استمرار دعمهم بلا قيد أو شرط.
وبالتالي؛ فأى التهاب، أو تغضن أو ضعف أو نقص أو تعصّف فى هذا المناخ، سيجعل من الصعب الاحتجاج بتوفر قواعد الانتخابات المذكورة، لتحقيق خيار الانتخاب وواجب الاستمرار. مع ملاحظة التفرقة الواضحة بين صناعة الانتخابات أو تصنيع الانتخابات من جهة- وبين عدم توفر المناخ الصحى لها من جهة ثانية- وبين تعرض زمن هذا المناخ لقوة قاهرة أو ظرف أجنبى من جهة ثالثة.
لا خلاف أن الديمقراطية المصرية تؤسّسها الانتخابات، المحكومة بدورها بقضية المناخ الصحى للترشح والانتخاب وقواعد الانتخابات! ولكن إذا صادف أو عاصر أو فُرض على زمن الانتخاب قوة قاهرة أو ظروف استثنائية، فستنعكس حتما على مصر كبلد ووطن وشعب وموارد وجغرافيا ومستقبل، وبالتالى هل كان من الممكن أو الأوجب التعامل مع هذا الزمن باعتبارات أعمق وأشمل، بدلا من تبعات وتوابع قد لا تكون فى مصلحة كافة الأطراف المرتبطة؟ (المرشحون، الناخبون، المناخ الانتخابي، المنتخب عليها بصفة أساسية)
فمع ملاحظة بسيطة جدا، يتعاصر (زمن المناخ الانتخابي) مع حرب غزة، تهديدات الجار، سيناء وإستراتيجيات التهجير وصفقة القرن، فرض كلمة الحرب فى الحسابات، تعويم الجنيه وجنون الدولار، الملء الرابع لسد النهضة، التضخم الموجع وهموم الجياع، وبالتالى هل يمكننا توقع اختيار واعٍ من ناخبين ملتهبين قلقين مخمصين، لمرشحين تظلمهم الظروف المحيطة؟ وهم بدون عصا موسى ولا كنوز سليمان، أو صبر أيوب ولا تدابير يوسف، أو حتى مال قارون وجرأة هامان؟
الحكم مسؤولية عميقة جدا، والظروف الاستثنائية القدرية للمناخ الانتخابى بمصر ديسمبر 2023، كانت تستوجب إما تأجيل موعد الانتخابات، وإما انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسى بالتزكية، أو حتى تفويضه بحكم مصر لمدة محددة، حتى تنجلى أجواء الربيع العربى الأجدد! أما ودعوة الناخبين لاستكمال انتخاب 3 مصريين لحكم مصر فى هذا الزمن الاستثنائى الصعب، الخطر، الحرج، فسيكون ظلما صارخا لصحيفة انتخابهم الضبابية شعبيا، وظلما أكبر لصحيفة الرئيس السيسى فى علاقته بمصر، اتفقنا أو تحفظنا على بعض نتائج إدارتها.
أنا لا أصادر على الانتخابات، أو حتمية انتخاب الرئيس السيسي، أو أن انتخابه محتوم، والانتخابات محسومة مسبقا أو للرأى العام العالمي- ولكنى كمصرى أحتاج لأن أنتخب فى مناخ صحى حقيقي، فلا أتوجه لاختيار صورة، أو أضع مقدراتى وبناتى فى أيدٍ رأيتها على الشاشات من شهر مثلا، وبدون صحيفة انتخابية يتحملون مسؤوليتها وأتحملها معهم فى قراري! لنتفاجأ مع الجديد بتحرّق المناخ الحالى للعناصر اليومية المصرية، والتحجج بشيوع المسؤولية أو عدم تعاون الأجهزة والإدارات، أو ثقل التركة أو سنة على الأقل للتعرف على مداخل وليس دهليز الدولة العميقة، أو شدّة الغربال، أو مكافآت الرعاة والحلفاء، أو التوريط فى حرب محدودة إلخ.
للظروف الاستثنائية غير المسبوقة؛ فالرئاسة بالتزكية أو التكليف محدد المدة، يحترم الواقع المصرى وعقلية الناخب والتهابات الشارع، ويمنح المرشحين الحقيقين فرصة عادلة للتنافس بموضوعية وجدية، ويمنح الرئيس السيسى وإدارته فرصة خطيرة لتصحيح، أو تطوير، أو تغيير أى نقد، أو سلبيات نتجت من تنفيذ خطط التنمية الطموحة، وبذات الوقت تحديد وتوحيد المسؤولية فى تقديم حلول وعلاجات يجوز مراجعتها.
كلنا ندعو لمصر بالأمن والاستقرار والسلامة والاستمرار والنماء، وكلها صفات لمناخ عادى أو متوسط لعناصر الحياة اليومية، التى نرجو إن استمرت، أن تكفل لنا محاولة الحياة والكفاح على الأقل، بدون مزيد من التدهور أو التشتت أو الخوف من الغد.
لا شك أن ذلك التصور الآن يتخطى الصعب ليقارب المستحيل! ولكن عظمة الديمقراطية المصرية أن تعلن رأيك لصالح الغد وليس اليوم. لأننى فى جميع الأحوال ملزم كمصرى بالاستمرار فى دعم هذا البلد وحاكم هذا البلد بمنتهى القوة خصوصا فى الظروف الراهنة، ولكنى على الأقل ومع حالة المناخ الانتخابى المصرى الحالي، فانى حسما أنتخب وأزكى من له صحيفة أستطيع قراءتها وتقييمها لمصلحة مصر الغد، على الأقل حتى نستعيد صحة مناخ العناصر اليومية المصرية.
* محامى وكاتب مصرى