الوعى الجمعي؛ مصطلح يُطلق فى علم الاجتماع على «وعى الأفراد» بالظروف والعلاقات التى تربطهم ببعض داخل مجتمعهم، كدلالة على استيعابهم وفهمهم لهذه الظروف بصفة الادراك العام أو الوعى بها داخل المجتمع.
أما المرونة العصبية Neuroplasticity فهى علم جديد، يقصد به الطَّريقة التى يعيد بها الدماغ البشرى تنظيم نفسه على أساس المحفزات الواردة عليه، عن طريق تكوين روابط جديدة طوال الحياة، بما يسمح له بتعديل أنشطته، استجابةً للمواقف الجديدة أو التغيرات فى بيئتهِ، فمن خلال المُرونة العصبية يمكن إعادة تنظيم دماغ الإنسان من خلال الممارسة والتدريب، ومع المرونة العصبية ومفهوم التعلم الدائم، يمكنك إعادة تنظيم أفكارِك لتغيير العادات اليومية السيّئة، فتعيد تنظيم نمطِ تفكيرك إلى ما تريد أن تكون عليه عادتُك الجديدة. خطورة المرونة العصبية فى اكتشاف إمكانية استخدامها، لإحداث تغيير إيجابى فى حياتنا بطرق عديدة فى أى عمر!
يشهد عالمنا الآن حزمة من المحفزات الحرجة التى تصدم عقولنا، مع تداعيات كورونا ـ وما قد يستجد ـ من انكماش اقتصادي، رهاب صحي، تخفيض العمالة، تغير شكل العمل، محاذير السفر والتنقل، تغير موازين القوى ..إلخ، فتساءلت؛ هل يمكن تطبيق مفهوم المرونة العصبية على عقل الوعى الجمعى للمجتمع؟
إذا كان الوعى الجمعى يطلق على وعى الأفراد، وكان الأفراد والمكان هم مكونات الشخص المعنوى (دولة/شركة/جماعة/أسرة)، فلماذا لا نحاول تطبيق فوائد المرونة العصبية على وعى / عقل الشخص المعنوى كالدولة، الشركات، المجموعات، الأسرة .. لاستحداث تغيير إيجابى فى حياتنا بطرق مختلفة، فى أى عمر كان عليه هذا الشخص المعنوي؟
واقعيا، الوعى الجمعى لشركة ما مثلا، يكون ناتجا من وعى إدارتها ومواردها البشرية ومركزها وحصتها فى السوق، فيما تقدمه من منتجات أو خدمات وما تواجهه من منافسة، بما يشكل ثقافة المؤسسة التى يتداولها هؤلاء مع عملائها ويتبنونها ضد الآخر! (عملاء أبل ضد مايكروسوفت / الأهلى ضد الزمالك / المتشددين ضد العلمانيين / الديموقراطيين ضد الجمهوريين / مدخنين ضد أصحاء وهكذا)، يضاف لذلك أن وعى الفرد قد يتكون من مكونات تصبغه أقواها فى التأثير! فيكون مثلا مستخدما لأبل، نباتيا غير مدخن، رافضا للنظام، مدمن عصائر، مدير إدارة! هذه التركيبة الفردية قد تتكرر أو تتماس فى بعض/أغلب الصفات مع كثيرين، لنجدهم يشكلون وعيا جمعيا فى قضية معينة أو تصديا لموقف معين عام أو خاص!
فإذا ارتفعنا من الوعى الجمعى للشركة الى الشركة القابضة مثلا، ثم ارتفعنا لسكان مناطق مثل إمبابة والتجمع، ثم ارتفعنا أكثر إلى الجماعة مثل الأهلى والزمالك أو الأزهر، ثم ارتفعنا اكثر إلى البرلمان أو الوزارات، فهل لو حاولنا تمارين المرونة العصبية الفردية لعقلهم الجمعي، تنتقل من الفرد للجماعة فى قراراتها أو مواقفها؟
عودة إلى المحفزات الحرجة التى صدمت الوعى الجمعى لكل من سبق، فسنجد قاسما مشتركا من القلق، الحيرة، الخوف، الهوس، اليأس بل والكآبة مما يسمى العالم الجديد بعد كورونا! وبغض النظر عن المستوى الثقافى والمالى والتعليمى والاجتماعى للجميع، فسنجد الخوف من الغد، هو محصلة التلاعب بالعقول والحرب النفسية الناتجة عن أساليب الدول والحكومات وجماعات المصالح للسيطرة على الجماهير، من خلال الإعلام والشائعات والتلفيق وإخفاء الحقائق، تنفيذا لمبدأ (احتلال الأرض، يبدأ من احتلال العقل، واحتلال العقل يبدأ من احتلال اللغة).
يشكل احتلال اللغة مفتاح العقول للتعبير عن رغاباتها ومشاعرها وطموحها أو ذكرياتها، ومن هنا تظهر أهمية المرونة العصبية لمحاولة التعافى من الانسحاب والاكتئاب والخوف والقلق المغلف للوعى الجمعى لنا الآن.
تتطلب المرونة العصبية لتغيير الدماغ 1 – أن يكون صاحبها متنبها، متحركا، واعيا، عندها الدماغ يطلق مواد كميائية عصبية تدعم تغيير الدماغ -2 المحاولة بجدية وبشكل أصعب، لخلق تحدٍ يستدعى التركيز فيتغير الدماغ تدريجيا -3 العمل بشكل متكامل ومتعاون لحظيا وفى الوقت المناسب ٤ـ رصد التغيرات الاولية المؤقتة، ليقرر الدماغ حسمها أو استمرارها، ليحكم بجودتها أو احتياجها لتغيير جديد ٥ـ التدريب ببروفات تغيير عقلية داخلية، تحاكى تطور تغيرات العالم الخارجى ٦ـ استمرار التعلم والتعرف لتحقيق الاستقرار والحد من التشتت والضياع.
إن قيام الدماغ البشرى بهذه الخطوات توصلا لتغيير حياته بالمرونة العصبية ـ بوعى أو بدون ـ يدعم تغيير مسار تفكيره فى اعادة تنظيم حياته، وطرح حلولا خارج الصندوق، والخروج بمحاولات إنقاذ غير متوقعة. فماذا لو حاولت إدارة الشركة أو الجماعات أو البرلمان أو صناع القرار اتباع هذه الخطوات؟ تدريجيا ستتغير أدمغة أفرادها، ثم وعيهم المشترك تجاه قضية معينة ثم المتأثرين بهم، فيتحجم القلق، يبدعوا فى الحلول، يكسروا الخوف، فيتحول العقل الجمعى تدريجيا لتشكيل رؤى جديدة، مواقف جديدة، سياسات جديدة.
حداثة علم المرونة العصبية للأفراد، لم تتطرق بعد لدماغ الجماعات أو الأشخاص المعنوية، ولكن فكرتى قد تفتح بابا لنظرة أوسع وأشمل تدعو القائمين عن قيادة المجموعات والجماهير، إلى تدبر دراسات موازية حتما ستفيد فى التصدى لانكماش الاقتصاد، التحرش، التطرف، الرهاب الصحي، تغيير الأسواق، فساد الإعلام، ..إلخ
إن عالمنا الجديد ما بعد كورونا، يستدعى حتما لجؤ الوعى الجمعى الى دراسات استعانة الشخص المعنوى بعلم المرونة العصبية، لإعادة تنظيم هذا العالم واستحداث نظم ومفاهيم وأنماط جديدة للتغيير الإيجابي، ولن نجد محفزات حرجة تجبرنا على ذلك أكثر مما نحن فيه .. فهيا للعمل! ابدأ بنفسك وساهم فى تشكيل وعى جمعى جديد!
* محامى وكاتب مصرى