(11) السرارى والإماء
أستأذن القارئ فى أنى لن أتوقف عند حديث الأستاذ العقاد عن السرارى والإماء فى الفصل الحادى عشر من الكتاب، وخلاصته أن الإسلام لم يشرع الرق، وإنما شرع العتق، فقد أوفى هذا المـوضوع حقه وزيـادة فيما سبق أن تناولنـا من كتبـه.. بإيجاز فى «عبقرية محمد»، ثم بتوسع وتعمـق فى «الفلسفة القرآنية»، ثم بشمـول أكثـر فى «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، فنحيل إليه، فى قضية شجرت قبل الإسلام، وتصدى لها بسياسة رشيدة جمعت بين الأصول والمتغيرات، وكان مما حض عليه من عتق وتوسيع أبوابه، السبب فى انحسار هذه القضية التى لم يعد لها الآن وجود.
(12) المعاملة
والمعاملة التى يعنيها الأستاذ العقاد هنا، هى بداهة معاملة المرأة، وهذه المعاملة مردودة بالبداهة- أيضًا- إلى أنواع متعددة غير مبنية على أساس واحد، ولا من مصدر واحد.
فبعضها من صنع السلطة دنيوية أو دينية.
وبعضها من صنع الغرائز والعادات الفطرية.
وبعضها من صنع المراسم والشعائر التى تتبدل مع الأمم والطبقات.
وبعضها من الأخلاق والشمائل التى تتغير وتتجدد وتتطور حسب التهذيب والثقافة.
وبديهى أن تتعدد الأسباب طبقًا لتعدد الأنواع، ولكن الأستاذ العقاد يوفق إلى رد أصولها إلى ثلاث أنواع:
معاملة القانون..
ومعاملة النسب..
ومعاملة الأدب..
فأما معاملة القانون، فإنها تخول المرأة حقوقها العامة وحقوقها الخاصة، كما تنص عليها العقائد والدساتير، وأقدمها فى دساتير الأمم الغابرة حقوق الميراث، وأحدثها حق الانتخاب ثم حق الترشيح النيابى فى القرن العشرين
ومعاملة النسب، تكسبها المرأة من صلة القرابة، أيًا كان حكم القانون فى مركزها وحقوقها.. كأم أو أخت أو بنت أو زوجة أو محرم تجب له الرعاية..
ومعاملة الأدب، وما هو من قبيل الشمائل العرفية، قد يرعاها الناس حيث لا يرعاها القانون ولا يفرضها واجب النسب..
شريعة القرآن الكريم
وشريعة القرآن الحكيم، شريعة محكمة فى كل نوع من أنواع هذه المعاملات الثلاث، وله فى كل منها دستورها الجامع..
معاملة الحقوق، دستورها الجامع أن الرجل والمرأة سواء فى كل شىء، وأن النساء لهن ما للرجال، وعليهن ما عليهم بالمعروف، وللرجال عليهن درجة القوامة، وليس فيها كما تقدم بيانه- خروج على شرعة المساواة.
ومعاملة النسب، دستورها فى القرآن الكريم، إجلال الأمهات، وصيانة البنات من الجناية على حياتهن (بالوأد) أو الكراهية لمولدهن، والقيام بواجب تربيتهن. وإحلال الزوجات محل الأزواج فى السكن و المأوى، فلا يُجنبن ولا يُعزلن.
ومعاملة الأدب، يلخصها فى القرآن الكريم كلمتان: المعروف، والحسنى.
وقد مَرَّ بنا نصوص الآيات القرآنية المثبتة لهذه الحقوق والواجبات ولهذه الرعاية، وهى واضحة بينة فى نصها وفى دلالتها.
على أن الأساس الذى تبنى عليه هذه المعاملات، ليس أقل من النصوص فى الدلالة على روح التشريع من الأحكام والنصوص. وهذا الأساس قوامه الاعتراف بالحق لأنه حق، وأن تقدير ميزانه الواجب يجرى لمصلحة المرأة، ومصلحة الأمة، ومصلحة النوع.. وغير منظور فيه إلى قوة الطلب أو قوة الإكراه على قبوله.
وشعور المعاملة القرآنية للمرأة هو دستور «المرأة الخالدة» فى وظيفتها النوعية، ووظيفتها التى يصلح عليها البيت والمجتمع.
ويتضح معنى هذه الأسس، حين نقابل بينها فى القرآن، وبين أسس المعاملة التى تلقتها المرأة من الحضارة الأوروبية.. وهى الثقافة اليونانية فى العصور القديمة، وآداب الفروسية فى العصور الوسطى، ودساتير الديمقراطية فى القرن التاسع عشر وما بعده.
ووجيز القول، فقد بسطناه سلفا فى الحديث عن «عبقرية محمد» وما فصله الأستاذ العقاد فيه، أن الثقافة اليونانية لم تعط المرأة شيئًا حتى فى إبان ازدهارها تعلو به عن الخصام الذى كان فى المجتمعات البدائية، وحصرتها فى عزلة إقامة بمنزل تنزوى فيه عن مكان الزوج وما يدير فيه علاقاته وولائمه، ومرعى فى المكان المعزولة فيه أن يكون معزولاً عما حوله سواء فى اختيار مكانه، أو تغليق نوافذه وأبوابه.
والمثل الأعلى الذى رشحها له أفلاطون فى مدينته الفاضلة، أن تكون مِلكًا مشاعًا لإنجاب النسل لمن يختارها من الرجال.
أما أرسطو، وكما تقدم، فقد كان ينعى على اسبرطة- فى كتاب السياسة- أنها أباحت للمرأة ما لا ينبغى لها من حق الميراث ورخصة الحرية.
والمشهور بين القصص عن عصر الفروسية انه عصر المرأة الذهبى، لأنه عصر الفارس النخو الذى هواه فى العقائل بالقصور والحصون، ولكنها صورة من صور الأحلام تنتهى إلى سخرية مضحكة كالتى سطرها «سرفانتس» فى خيال بطله «دون كيشوت».
وحقيقة ذلك العصر، كما وصفه «جون لانجدون دافيز» صاحب كتاب التاريخ الموجز للنساء- Short History of Women – أنه كان عصر الحصان لا عصر المرأة، ومنه ما اقتبسه الأستاذ العقاد كما يقول فى كتابه «عبقرية محمد» عن حقيقة حال المرأة فى ذلك العصر وفى العصور التالية، وأعاد الأستاذ العقاد ما اقتبسه من هذا الكتاب فى عبقرية محمد، وقد تناولناه سلفًا حين كتبنا عنه فى أوائل هذا المجلد.
ويعيد الأستاذ العقاد الاستشهاد هنا- عن كتاب التاريخ الموجز للنساء- بحادثة وقعت بالغرب سنة 1790 بعد تقدم الزمن من العصور المظلمة، فإذا بامرأة تباع فى أسواق لندن بشلنين، لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التى كانت تؤديها، وبقت المرأة محرومة- إلى سنة 1882 – من حقها الكامل فى ملكية العقار أو حرية المقاضاة.. وكان تعليم المرأة سبة تشمئز لها النساء قبل الرجال، حتى إن «اليصابات بلاكويل»، أول طبيبة فى العالم، كانت تلاقى الأمرين حين دراستها للطب سنة 1849 فى جامعة جنيف.
ولا بأس من أن أشير هنا إلى خمس مقالات نشرتها تباعًا فى مجلة حواء الأسبوعية القاهرية- منذ 24/1/2015 حتى 21/2/2015، ودارت حول جذور استعباد المرأة فى الغرب، وما صادفته من صور مزرية من المعاملة البائسة، عن كتاب للمفكر الفليسوف، والاقتصادى السياسى الليبرالى الانجليزى المعروف : جون ستيورات ميل (1806 / 1873) الذى اشتهر بكتابه عن الحرية، وفى ترتيبى أن تكون ضمن كتاب «مدارات فى الفكر والأدب والحياة» الجارى إعداده للنشر.
● ● ●
وتعتبر الدساتير الديمقراطية- فيما يقول الأستاذ العقاد- آخر المراحل التى شرعت للمرأة معاملة حديثة قائمة على المبادئ الفكرية، ومضى بعضها شوطا بعيدًا على ما تعرضت له هنا وهناك من مقاومات.
ولكنك حين تضاهى ما تقرر فى هذه الدساتير، وما تجرى به المعاملة، تزداد اقتناعًا بأن القرآن الكريم إذ أعطى للمرأة مكانتها وحقوقها، قد كفل لها أكـرم معـاونة على الأسس التى اسلفناها، معاملتها بالحسنى والمعروف، وعلى سنة المساواة بين الحقوق والواجبات..
Email: [email protected]
www.ragai2009.com