فشلت حزمة المحفزات التى أقرتها الصين منذ سبتمبر الماضى، فى إحداث أى أثر ملموس على سوق العقارات المترنح، إذ واصلت المبيعات تراجعها الحاد وسط مخاوف من تكرار سيناريو «الفقاعة» التى شهدتها اليابان خلال الثمانينيات فى ظل تشابه أسباب الأزمة فى الحالتين.
وجاءت فقاعة العقارات اليابانية فى سياق إلغاء الضوابط المالية المشددة، والسياسة النقدية المتساهلة، وتفضيل المستثمرين المحليين لقطاع العقارات، وعندما انفجرت الفقاعة اليابانية، كانت الجهات التنظيمية صبورة للغاية مع البنوك المحلية، مما أدى إلى تفاقم المشكلة.
وحسب تقرير لصحيفة «ذى إيبوك تايمز» الأمريكية، فإن الأسباب الكامنة وراء أزمة الإسكان فى كلا البلدين كانت متشابهة، بما فى ذلك اختلالات الاقتصاد الكلى والتحرير المالى المفرط الذى سمح لمطورى العقارات بالاعتماد على القطاع المصرفى غير الرسمى لزيادة رأس المال مع تدقيق أقل من البنوك وغيرها من المقرضين الخاضعين لرقابة الجهات التنظيمية.
لكن يتمثل الاختلاف الرئيسى بين الحالتين فى أن الصين حافظت على معدل نمو اقتصادى أعلى بكثير من اليابان، مما أتاح مساحة أكبر للخطأ.
ويقول محللون إن التراجع الحاد فى قطاع العقارات الصينى يشبه الفقاعة العقارية اليابانية فى الثمانينييات، مشيرين إلى أن الصين متأثرة بعوامل متعددة، مثل وباء كوفيد-19 وشيخوخة السكان.
وأضاف المحللون أن الحكومة الصينية لا يمكنها الاعتماد على النمو الاقتصادى أو السياسات المالية للتغلب على أزمة سوق الإسكان.
تراجع حاد للمبيعات رغم المحفزات
وواصلت مبيعات العقارات تراجعها الحاد فى المدن الرئيسية بالصين، رغم قيام الحكومة بتطبيق سياسات تحفيزية، مثل الإعفاءات الضريبية لمشترى المنازل الجديدة وتخفيض معدلات الفائدة على التمويل العقارى.
ومن بين أهم المؤشرات التى اعتد بها التقرير لقياس أثر تلك المحفزات رغم إقرارها قبل شهرين فقط، الأداء العام لقطاع العقارات الصينى بعد عطلة اليوم الوطنى مطلع أكتوبر والتى تمتد لأسبوع، حيث تعتبر تقليديًا وقت الذروة بالنسبة لمبيعات العقارات.
وفقا للتقرير، انخفض متوسط المعاملات اليومية على الوحدات السكنية التجارية الجديدة فى أكبر أربع مدن فى الصين خلال أسبوع العطلة، ومقارنة بالفترة نفسها فى عام 2021 ، هبطت المبيعات بنسبة %21 فى قوانغتشو ، و%47 فى شنغهاى، و%49 فى شنتشن، و%64 فى بكين.
ماذا قدمت بكين للسوق؟
فى 30 سبتمبر الماضى، أصدرت وزارة المالية الصينية ومصلحة الضرائب قرارا يسرى اعتبارًا من 1 أكتوبر، حتى 31 ديسمبر 2023.
وبموجب القرار، سيكون دافعو الضرائب الذين يبيعون مساكنهم التى يملكونها ويشترون منازل أخرى بنظام التمليك مؤهلين لاسترداد الضريبة خلال عام واحد من البيع.
وفى ذات اليوم، أعلن البنك المركزى الصينى عن أول تخفيض لسعر الفائدة على القروض العقارية منذ سبع سنوات إذ قرر منح تخفيض بمقدار 0.15 نقطة مئوية لمشترى المساكن لأول مرة، اعتبارا من 1 أكتوبر.
وفى الأول من أكتوبر، ذكرت وكالة الأنباء الصينية أن المراقبين واثقون من أن مثل هذه السياسات ذات الوزن الثقيل ستحفز المبيعات العقارية خلال موسم الذروة التقليدى وحتى الربع الأخير.
ومع ذلك، وفقًا للبيانات الصادرة عن أكاديمية مؤشر بكين الصينى فى 8 أكتوبر، لم تتعاف سوق العقارات الصينية من وباء كوفيد- 19 حتى الآن.
ويلقى الكثيرون باللوم على سياسات الإغلاق المتشددة المرتبطة بمكافحة وباء كوفيد-19 التى ينتهجها الحزب الشيوعى الصينى التى تلقى باقتصاد البلاد فى أزمة، مما يبطل أى تدابير مصممة لإنعاش سوق الإسكان.
تأثير ثقيل على الاقتصاد
وحسب تقرير لـ«بى بى سي» فإن الصين قد لا تكافح تضخما حادا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنها تواجه تحديات كبيرة أخرى.
وباعتبارها المصنع العالمى، وفقا للتقرير، تجد الصين فجأةً عددًا أقل من المشترين لمنتجاتها، محليًا ودوليًا، كما أعاق توتر العلاقات التجارية بين الصين والاقتصادات الكبرى، مثل الولايات المتحدة، نموها الاقتصادى.
علاوة على ذلك، تراجعت العملة الصينية مقابل الدولار الأمريكى وهى عند أدنى مستوى لها منذ عقود، وقد تسبب ضعف العملة فى إشاعة حالة من الذعر بين المستثمرين، مما أدى إلى زيادة الضبابية فى أسواق المال، وجعل من العسير على البنك المركزى الصينى ضخ الأموال فى الاقتصاد.
وحدد تقرير بى بى سى خمسة أسباب رئيسية تجعل الاقتصاد الصينى فى أزمة: وهى سياسة صفر كوفيد-19، وعدم تعامل الحكومة بشكل جيد مع الاقتصاد الضعيف، وأزمة سوق العقارات، وأزمة الطاقة، وخسارة عمالقة التكنولوجيا فى الصين للمستثمرين.
وأوضح تقرير إيبوك تايمز أن ضعف سوق العقارات يمثل ضربة خطيرة للاقتصاد الصينى، إذ يشكل القطاع العقارى والصناعات المرتبطة به ما يصل إلى ثلث الناتج المحلى الإجمالى فى الصين.
وقال لويس كويجس، كبير الخبراء الاقتصاديين فى آسيا لدى «ستاندرد آند بورز»: «عندما تتراجع الثقة فى سوق الإسكان، فإنها تؤدى إلى شعور بعدم اليقين بشأن الوضع الاقتصادى العام».
وبدأ مشترو المنازل فى الصين رفض سداد أقساط القروض العقارية لمنازلهم غير المكتملة، وتساءل البعض عما إذا كانت المساكن ستكتمل فى يوم من الأيام.
وأوضح التقرير أن الطلب على العقارات الجديدة انخفض بشكل كبير، مما قلص الطلب على مواد البناء ذات الصلة.
العوامل الأساسية وراء تراجع سوق العقارات في الصين
وفى مقال نُشر فى «دويتشه فيله» مطلع أكتوبر، حلل دينج يووين، الصحفى والكاتب الصينى المقيم فى الولايات المتحدة، العوامل الأساسية وراء تراجع سوق العقارات فى الصين.
وقال دينغ إن مستقبل الاقتصاد الصينى يكتنفه التشاؤم، على الأقل فى المدى القصير إلى المتوسط، مما يجعل الأشخاص حذرين بشأن الإنفاق على السلع، خاصة العقارات الفاخرة.
وفقا للتقرير، خلقت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين بيئة أكثر تشددا لتحقيق التنمية الاقتصادية فى الصين، بسبب قيام الولايات المتحدة بحظر ومنع سلاسل الإمدادات الرئيسية والتكنولوجيا العالية عن الصين.
علاوة على ذلك، أدت سياسة صفر كوفيد- 19 التى انتهجها الحزب الشيوعى الصينى والتأثير الجيوسياسى العالمى للحرب الروسية الأوكرانية إلى تأزم الوضع الاقتصادى.
كذلك، فإن أسعار العقارات فى الصين مرتفعة للغاية بالنسبة لدخول الأشخاص، ورغم انخفاض أسعار المساكن مؤخرا، إلا أنها لا تزال مرتفعة للغاية بشكل عام، كما قال دينج، ومع انخفاض دخول الأفراد ومعاناة العديد منهم من البطالة، لا تستطيع الغالبية العظمى تحمل تكاليف الاستثمار فى العقارات.
وأضاف دينغ أن الهيكل السكانى فى الصين مر بتغييرات جذرية، فانخفاض معدل المواليد وتناقص عدد السكان من العوامل المهمة التى تؤثر على الاستثمار على المدى الطويل، مؤكدا أن تداعياته على القطاع العقارى تتحقق الآن.
ممتلكات «الآباء» تثبط الطلب من جيل الألفية
وأشار دينغ إلى أن الطلب الحالى على العقارات فى الصين يأتى بشكل رئيسى من جيل الألفية، ومع ذلك فإن العديد من آباء هذه الفئة يمتلكون بالفعل عقارين أو أكثر، لذلك لا يرغب الكثير من جيل الألفية حاليًا فى شراء عقارات جديدة ما لم يكن هناك تحسنًا كبيرًا مقارنة بالعيش فى عقارات آبائهم.
وأضاف: «ما لم يكن هناك المزيد من الانخفاض فى أسعار العقارات، فإن احتمالية استثمار جيل الألفية فى العقارات على نطاق واسع منخفضة للغاية، وسيصبح الوضع أكثر وضوحا مع انخفاض معدل المواليد وتنامى عدد السكان المسنين”.
وفى مقال نُشر يوم 30 سبتمبر الماضى بمجلة «Nikkei Asia Weekly» قالت أليسيا جارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ فى شركة «Natixis»، إن ركود القطاع العقارى فى الصين يدخل عامه الثانى، مشيرة إلى أن المشاكل المالية لمجموعة إيفرجراند «Evergrande» أدت إلى تكهنات بأن الصين ستدخل «لحظة ليمان براذرز»، فى إشارة إلى إفلاس «Lehman Brothers”، مما أدى إلى أزمة الرهن العقارى فى الولايات المتحدة عام 2008.
ومع ذلك، فإن مشاكل القطاع العقارى فى الصين تختلف عن أزمة الرهن العقارى فى الولايات المتحدة، فهى تشبه إلى حد كبير الاختلال الاقتصادى الكلى الذى شهدته اليابان فى الثمانينيات والتسعينيات، والمعروف باسم «العقود المفقودة» من الركود الاقتصادى فى اليابان.
وفقًا لتحليل هيريرو، أدى إفراط الأسر الصينية فى تملك العقارات، وخيارات الاستثمار المحدودة، وطلب المستهلك المحكوم بسبب قيود رأس المال، إلى زيادة بناء المساكن خارج المدن الكبرى.
ومع ذلك، قالت هيريرو إن الإجراءات الصارمة التى تتخذها الصين للسيطرة على كوفيد- 19، إلى جانب شيخوخة السكان وتراجع عوائد الأصول، تشير إلى تباطؤ النمو الاقتصادى فى المستقبل.
وأكدت أن التباطؤ وضعف الوضع المالى يجعلان من الصعب على الصين حل مشاكلها العقارية كما فعلت اليابان لأن التكاليف لابد أن ترتفع بمرور الوقت.