المثقف والخبير

توفيق اكليمندوس

7:24 ص, الأحد, 14 يوليو 19

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

7:24 ص, الأحد, 14 يوليو 19

جمعنى مجلس منذ أيام مع صديق وهو مثقف مصرى بارز، وتناولنا الحديث حول التخطيط لمستقبل الوطن وهل للمثقفين دور فى رسمه أم هل تترك القضية لجهاز الدولة وللخبراء.

اتفقنا على التمييز بين المثقف والخبير والإنتليجنتسيا. المثقف هو من يهتم بجدية بالقضايا التى تمت بصلة لقيم الوطن والمجتمع والبشرية وبتطورها وبما يتعلق بعمليات تأسيس وإعادة إنتاج المجتمع وبمختلف النشاطات الذهنية للإنسان. أى أن تخصصه عدم التخصص٬ تخصصه هو المقاربة الكلية العابرة لفروع العلوم المختلفة، ليس ضروريا أن يكون المثقف موسوعيا ملما بكل ما يجرى فى شتى المجالات٬ ولكن المهم أن يكون قادرًا على عدم حصر نفسه فى خانة واحدة مهما عظمت أهميتها
الخبير هو من يلم بأسس وآخر تطورات فرع من فروع المعرفة ويشارك فى صنعها٬ ويستطيع أن يبدى رأى الثقات فيها.

الإنتليجنتسيا مشكلة شائكة٬ تعريفها يختلف من مجتمع لآخر ومن حقبة لحقبة٬ وسيكون دائما خلافيا٬ لأن المصطلح ليس محايدا تماما وحماّل أوجه٬ يمكن أن يكون حاملا لمعان إيجابية (طليعة الأمة ومشارك فى صياغة مشروعاتها)، وقد يكون القصد منه سلبيا يشير إلى المسيًّس الذى لا يفهم فى السياسة٬ نستطيع أن نقول مثلا ونحن بصدد الحديث عن مصر إن الإنتليجنتسيا مكونة من أبناء شرائح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة الذين تلقوا تعليما متقدما نسبيا عن ذلك المتاح للعامة٬ فيتصورون أن هذا التعليم هو العلم٬ وأنه يؤهلهم للتحدث فى كل الموضوعات ولقيادة الأمة وتصدرها ويرون فى سياسيى بلدهم جمعا من الجهلاء عديمى الأخلاق٬ ولا يدركون الفروق بين السياسة والدين والأخلاق والعلوم٬ يقعون بسهولة فى شباك النسخ المبسطة للأيديولوجيات العقائدية المتطرفة والضيقة الأفق والمحرفة للواقع والخالقة لعالم بديل متخيل لا وجود له. إنهم إما الحركيون العقائديون أو جنرالات القهاوي.

يتميز عصرنا هذا بتراجع دور المثقفين وبصعود الخبراء وباتساع قاعدة الأنتليجنتسيا٬ والظاهرة عالمية لا ينفرد بها مجتمع. فلنبدأ بتراجع المثقف.
لا يوجد فى مصر مثلا مثقف يستطيع أن يزعم أن له المكانة التى كان يتمتع بها طه حسين أو توفيق الحكيم٬ ولا يوجد فى فرنسا من يستطيع أن يدعى أن حضوره وتأثيره مثل حضور وتأثير سارتر وفوكو.

قد يعود هذا التراجع إلى ازدياد تعقد المجتمعات والظواهر والعلوم٬ تعقيداً يجعل من الصعب الإلمام بملفات ومجالات دون التفرغ لها دون غيرها٬ وقد يفسر بنوعية التعليم الذى نتلقاه فى كل مكان فى العالم حيث حلت الرياضيات والعلوم الطبيعية محل الفلسفة والعلوم الإنسانية واللاهوت أو علم الكلام. مناهج التعليم تحاول أن تيسره وتدرب على القراءة السريعة٬ ولكن فهم أمهات الكتب يتطلب ترويضا على القراءة البطيئة المتأنية المؤلمة والمثمرة.

ومن الصعب تحديد هل المشكلة فى تراجع وتغير نوع العرض أم فى تغير طلب الجمهور مع تغير مزاجه وتشكيله أم فى وجود بديل. هل المشكلة فى غياب المثقف الكبير؟ أم فى حلول التليفزيون وشبكات الاتصال الاجتماعى محل الجرائد والكتب؟ هل المشكلة فى ظهور منافسين أقوياء من أمثال رجل الدين أو الصحفى الموهوب القادر على التبسيط رغم أن تبسيطه مُخلّ؟ هل المشكلة فى صعوبة الحياة فى عصر العولمة الجمهور يشاهد التليفزيون بعد يوم طويل ليسلى نفسه لا ليتعلم أو ليتلقى محاضرة، لا يرى غضاضة فى الاستماع إلى ما يفيده إن لم يكلفه هذا مجهودا كبيرا وإن لم يجبره ذلك على مراجعة جذرية لكل تصوراته.

تتعدد الاجتهادات وتشترك كلها فى إلقاءه الضوء على جانب من جوانب مشكلة بالغة التعقيد. فى المقالات التالية سأحاول مقارنة أوضاع الخبير والمثقف، فى محاولة منى لشرح أزمة الثانى وازدهار الأول.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

7:24 ص, الأحد, 14 يوليو 19