لم أكن أتخيل، أنه سيأتي اليوم، الذي قد يترحم فيه الكثيرون -مخلصين وليس منافقين- على حال المؤسسات والصحف القومية، في عهد سمير رجب وجلال دويدار ومحمد عبدالمنعم.
نعم تصورت أن يكون ذلك، حال بعض المنافقين والمستفيدين من أصحاب المصالح، لكن أن يتبلور ذلك في اتجاه عام -هذا مجرد توقع افتراضى-، فذلك ما لم يدر بخلدي بكل تأكيد.
أصل الحكاية، أنه منذ أن كنت طالبا في الجامعة، وأنا أستمع وأقرأ لمئات الأصوات، المطالبة بتغيير قيادات المؤسسات الصحفية، لم تلبث أن تعالت حدتها في السنوات الأخيرة، بعدما ضربت هذه القيادات في فترة بقائها على مقاعدها كافة الأرقام القياسية المحلية والدولية، بل تجاوزت حتى شرعيتها القانونية، إثر تعديها سن الخامسة والستين.
ومع استمرار الضجيج المثار حول هذه القضية، وغيرها من القضايا المرتبطة بعملية الإصلاح السياسي ومسألة التحول الديمقراطي، تطورت الأمور إلى أن بلغت مرحلة الذروة الدرامية، بصدور قرار التغيير الأسبوع الماضي، وتولي قيادات جديدة محل القيادات «التاريخية» -بحكم طول مدة حكمهم وليس لأهميتهم التاريخية- للصحف القومية.
والواقع أن المتابع لما تنشره هذه الصحف في الأيام القليلة الماضية، وما يدور في كواليسها، لن يكون بمقدوره أن يتجنب إصابته بمشاعر الإحباط.
فتراكم الحديث عن التغيير والمطالبة به، تفتقت عنه في أذهان الكثيرين -وربما أكون واحدا منهم-، تصورا يصل إلى حد اليقين، بأن تغيير القيادات، يمثل الحل السحرى لحل مشكلات هذه المؤسسات المالية والإدارية، وتطويرها تحريريا، وانتشالها مهنيا من سباتها العميق.
بل وربما ذهب البعض إلى درجة اعتبار التغيير، بمثابة بداية حقيقية لنقلة نوعية، ليس فقط لهذه المؤسسات، وإنما للصحافة المصرية ككل.
ذلك ان ضخ دماء جديدة، أياً كان لونها أو خفتها أو ثقلها، كفيل بتخليق حالة من الحيوية في الوسط الصحفي على وجه العموم.
فماذا حدث؟.
لا شيء، لا شيء على الإطلاق، نفس الموضوعات والأخبار يتم ترتيبها بنفس درجة الأهمية، نفس الصفحات «المتنكرة»، تنشر فى نفس المكان، وبنفس البنط، وبنفس الأسلوب، وفي نفس الاتجاه.
رؤساء التحرير الجدد مشتتون، ما بين مشاعر الخضة وعدم التصديق، عاجزون عن الحركة، بل إن بعضهم قد عجز أصلا عن دخول مكتبه الجديد، سواء لرفض القيادة التاريخية المغادرة، كما في حالة مجلة أكتوبر على سبيل المثال.
أو لرفضهم هم- القيادات الجديدة- دخوله، كما في حالة أسامة سرايا رئيس تحرير جريدة الأهرام الجديد، الذي أبى أن يغادر إبراهيم نافع «القيادة التاريخية» مكتبه، القابع به منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما.
أما من تحرك منهم، وفتح الله عليه بعمود أو مقالة، فيا ليته لم يفعل، إذ أن هؤلاء قد فاجأونا بمقالات، سعوا بها لمحاكاة من سبقوهم في كل شيء.
الحديث عن الريادة، ودور مصر، واستهداف مصر بسبب هذا الدور، ومحاولة التقرب والتزلف إلى القيادة السياسية، لدرجة أنه لا يمكنك أن تلحظ بسهولة أي تغيير، اللهم سوى استبدال اسم رئيس التحرير القديم برئيس التحرير الجديد، وزيادة درجة الابتذال، ربما لأن الوافد الجديد، لا يزال حديث العهد بـ«الكار».
إن فرط الحماس لقرار التغيير، قد جعل الكثير منا، يغفل العديد من العوامل الموضوعية، التي من شأنها أن تجعل منه حبرا على ورق، تغييرا في الأشخاص، وليس فى المضمون، ومجرد إحلال لنسخ مقلدة، للوحات بالغة الرداءة.
منها مثلا أن القيادات الجديدة، قد أمضت عمرها المهني كله أو أغلبه، تحت رئاسة القيادات القديمة، فلم تعرف سواها، كيف تكتب، أو كيف يكتب لها، كيف تتحرك، كيف تتزلف، كيف تتنافس على الصعود، وبأي وسائل، ووفقا لأي ميكانيزمات.
وطوال هذا العمر، تعلمت جيدا هذه القيادات، أن معيار الكفاءة المهنية لا علاقة له بالحراك داخل المؤسسة، ويكفي إلقاء نظرة عابرة على الأسماء المتواترة على قيادة هذه المؤسسات على مدار الأربعين عاما الأخيرة، للتدليل على ذلك.
فمن جيل هيكل وأحمد بهاء الدين ومصطفى وعلى أمين انتقلت هذه المؤسسات إلى قيادة موسى صبرى وسعيد سنبل ومحسن محمد، لتنتهي إلى الأيادى البيضاء للقيادات التاريخية الراحلة.
وفي هذا الإطار أيضا، ليس غريبا أن نلاحظ اختفاء ظاهرة تباهي الصحفيين، بالانتماء لمدرسة الأستاذ هيكل أو مصطفى أمين أو بهاء الدين الصحفية.
فى مقابل تنامي ظاهرة أخرى، تتمثل في الانتماء لشلة سمير رجب أو إبراهيم نافع أو رجب البنا، إذ إن المعيار هنا، هو الولاء لشخص الرئيس على أساس المصالح، وليس من باب التأثر به ككاريزما صحفية.
وأخشى أن أكون متشائماً من نتائج هذا التغيير، خاصة وأنه قد صاحبه احتفاظ القيادات القديمة بنفوذها -حتى الآن-، داخل مؤسساتها، وداخل المجلس الأعلى للصحافة.
الأمر الذى ينذر -من وجهة نظري-، باستمرار حالة التدهور في المؤسسات، وفي البيئة التشريعية والتنظيمية المحيطة بصناعة الصحافة ككل.
كذلك أيضا أنه لا يخفى عن القارئ، وغير القارئ، أن عددا من القيادات القديمة، قد دأبت في الفترة الماضية على تحريض وتأليب الحكومة والمجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين على بعض الصحف المستقلة والمعارضة بغرض إرهابها وإسكاتها.
وأعترف أن الخوف قد بلغ بى مداه، إلى حد أنني قد أخشى من يوم، قد يأتي قريبا، أجد نفسي فيه، أتذكر بكل احترام وتقدير ومودة صادقة جيل القيادات الصحفية المنصرم، وأهتف من أعماقي صارخا: الله يمسيك بالخيرة يا سمير يارجب!.