القصد الاحتمالى كفكرة عامة، هو إرادة السلوك وقبول المخاطرة وتوقع النتيجة، فتتجه نية الإنسان لتوقع تحقيق فعله لضرر، ويرفض نتيجته بالأساس ومع ذلك يستمر بالتنفيذ، مستوياً لديه حصول هذه النتيجة أو عدم حصولها، بما يوفر لديه قبول تحققها بالنهاية!
فمن يقود سيارته بسرعة بشوارع ضيقة مزدحمة، عليه توقع احتمال صدم إنسان! فإذا تابع القيادة رغم ذلك وصدم أحدهم فمات، فيعتبر قتله عمدا لمتابعته القيادة، رغم أن النتيجة لم يرِدها أساسا وكان حتما تدبرها، ولكن إكمال سلوكه تجاهل النتيجة عند وقوعها فقبلها وتحمل مسؤوليتها. كذلك من يتجاوز الردع ليدخل حربا محدودة، عليه توقع تعديها لآخرين، فإذا استمر بالتصعيد وتجاوزت نتائج الحرب الموت المباشر للموات الاقتصادى والتشتت السياسى، تحول قصده الاحتمالى فى الضرر المحدود للقصد العمدى فى الدمار الشامل! أيضا من يدخل مباراة كرة قدم عالمية بدون تدريب كافٍ واستراتيجية حقيقية ولاعبين مؤهلين وروح وطنية قتالية، فتكون إرادة سلوك اللعب بمباراة دولية، ودخوله الملعب قبولا لمخاطرة الإخفاق، بتجاهل النتيجة عند الخسارة فيتحمل مسؤوليتها.
كذلك من ينتج دراما سوداء بزمن حرج اقتصاديا وسياسيا ودينيا، ويقبل مخاطرة تسبب عمله وأفكاره بضرر للشباب والمجتمع، وينفذها ويبثها وتثمر مزيدا من التشتت والتسطح والغفلة والتطرف، يتحول قصده الاحتمالى لعمدى، يتحمل مسؤولية استمرار تدميره لوعى أجيال كاملة.
أساس فكرة الجريمة فعل يتنافى مع المعايير الجمعيّة والقانونيّة والدستور، بتعديّه على حقوق الآخرين وانتهاكها؛ ويعاقب عليه القانون لتحريمه قانوناً وشرعاً. لتبقى فلسفة معاقبة الجريمة (كعمل ضار بالمجتمع)، الدفاع عن هذا المجتمع لا الانتقام من الفاعل. المشكلة أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص! ومع ذلك، يمكن رصد ومتابعة عشرات الأعمال والقرارات والفتاوى والأحكام والتصرفات التى يختلط فيها حسن النية، بالقصد الاحتمالى، بمعاندة وتجاهل المعطيات، لنصل بالنهاية لعمد يشكل أفعالا ضارة غير مجرمة بنص القانون!
الكثير جدا من النتائج الدامية التى نخوض غمارها يوميا سببها قصدا احتماليا للفاعل/الفاعلين، يقترن دوما بحسن النية للنجاح أو الإنقاذ أو الفوز أو الثراء أو الدعم إلخ، مع زخم مخاطر بعدم الاستعداد أو الدراسة أو التعجل أو المصالح الفئوية إلخ. فإما (ربنا يسترها) ولا تتحقق النتيجة المرفوضة أو تقع وتستوعب، وإما تقع الخسارة والضرر، لنبدأ مراحل التبرير أو الشماعات أو الطرف الثالث أو الإرهاصات أو المحرضين أو خلق أزمات جديدة نغطى بها على الأضرار والخسارة. المشكلة الحقيقية هى الترفع عن دراسة العلاج الحقيقى وغياب العقاب دفاعا عن المجتمع لا الانتقام من الفاعل.
تتوالى الأيام والعقود والأحداث والمفارقات، لتتكون ذاكرة تراكمية من الأخطاء والمخالفات والجرائم غير المصنفة أو معاقب عليها، لمجرد سيطرة القصد الاحتمالى على فكرنا ذاته! فنحن نمارس أعمالا إعلامية وحكومية وتعليمية وتربوية ورياضية إلخ، ونفتقد للعديد من أسس الممارسات المحترفة أو المنظمة أو الواجب اتباعها أو متابعتها أو تصحيحها، لمجرد إدارتنا بالذاكرة التراكمية التى لا تريد نتيجة الفشل والضرر والخسارة، ومع ذلك تستمر سلوكياتنا فى تجاهل الصواب والصح والواجب والأسس، لتكون النتائج الغالبة أضرارا غالية!
كم من صور للقصد الاحتمالى نرتكبه ونتورط فيه يوميا بدون عقاب على الأضرار التى نحققها لأنفسنا ومجتمعنا وبلدنا؟ المسألة أكبر من نص قانونى أو جريمة جنائية أو مفهوم عقابي! القصد الاحتمالى تطور لسمة تعاصر أفعالنا فى العمل والعلاقات والدين والكسب. قديما كان يقال يطلع الحرامى من بيته ويقول توكلنا على الله! ورغم اختلاف التفاسير للمقولة، فهو يعلم أن سلوكه سيحرم موظفا من مرتب شهر كامل، فلو نجح سرق ولو فشل سُجن! مرة هو سيتعشى ومرة الموظف سيتعشى باقى الشهر! وهكذا فى قرارات صاحب العمل المتعنت أو المستثمر الخبيث أو الموظف المهمل وغيرها من صور مجتمعية تستهدف الاقتصاد والمصلحة العامة والربح والتربح على حساب الموضوع والقيم.
يزيد القصد الاحتمالى للشعب بالأيام الضبابية، عقب الثورات والحروب والانتفاضات والأزمات الاقتصادية والتضخم، لتعمل ذاكرته التراكمية عمل عقله الباطن، فيتبنى سلوكا حياتيا لا يتورع فيه عن قيادة ذاته بسرعة، فى دنيا مؤججة بالتضخم والغلاء والحروب الدولية والكوارث البيئية والقرارات الاقتصادية، مستهدفا النجاة بنفسه على حساب ضوابط واعتبارات الصح ومصلحة الآخرين وحقوقهم، ليصل لآخر يومه، ليستأنف غده بقصد احتمالى بإما وإما؟
للأسف يطول القصد الاحتمالى الهرم الاجتماعى والوظيفى والاجتماعى، ولا تكاد تخلو منه بيئة، المأساة تعود لذاكرتنا التراكمية عن الخطأ والضرر وابتلاع الازمات وتقبل الوجع، كمسكنات لأضرار حسن النية، التى تظهر فى دورات الزمن سوء نية الكثير منها من البدايات، ولكن نظرا لعدم الحسم والتصحيح والمواجهة أو الاعتراف بالخطأ واحتراف تجارة الشماعات، فلا مجال إلا للاستمرار فى حسن نيتنا، بألا يصاب أحد بضرر من التفكر أو دعوة الإفاقة أو حماية المجتمع.
«ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنقَلِب إِلَيكَ البَصَرُ خَاسِئا وَهُوَ حَسِير» (الملك 4)
* محامى وكاتب مصرى