مع إقتراب فتح أبواب الترشح للرئاسة الأمريكية فى 2020 داخل الحزبين الجمهورى والديمقراطى، يبرز تيار ينظر بتمعن فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فى العشرين سنة الماضية، أى تقريباً منذ أحداث 11 سبتمبر.
جرت مياه كثيرة.. لكن الظاهرة الأهم فى السياسة الأمريكية فى هذين العقدين كانت الحروب المتعاقبة التى بدأتها الولايات المتحدة، بشكل رئيسى وإن كان غير حصرى، فى الشرق الأوسط الكبير (الواصل الى أواسط آسيا).
وبغض النظر عن أهمية الحرب كعنصر رئيسى فى استراتيچيات الفِعل الخارجى للولايات المتحدة، وبغض النظر أيضاً عن أهمية الحروب كتجارب لصناعات مختلفة (سواءا عسكرية بحتة، أوتكنولوجية وغيرها)، فإن الحاصل أن الولايات المتحدة قد أنفقت من مواردها وأرصدتها وتركيزها، الكثير فى حروب، لا يبدوبعد عقدين من الزمان، أنها حققت ما كانت تهدف إليه.
والسؤال الذى يطرحه عدد من المفكرين – والمرشحين المحتملين للرئاسة – هو: ماذا كان تأثير هذه الحروب على قدرات الدولة الأمريكية؟
كانت هناك أرباح فى تثبيت السيطرة الأمريكية على مناطق ذات أهمية إستراتيچية (مثلاً مناطق على طريق الحرير الجديد، المبادرة التجارية الأهم للصين).. وفى تطوير القدرات والتجارب والصناعات العسكرية الأمريكية، وهى العامل الأهم لاستمرار الدور الأمريكى فى العالم كما هو.. ولا شك أن لتلك الأرباح السياسية عوائد اقتصادية.
لكن الظاهر أيضاً، بوضوح أمام الطبقة الوسطى الأمريكية، انه، فى نفس الفترة الزمنية (العقدين الأخيرين) كانت هناك تراجعات فى عدد من الجوانب الاقتصادية ذات الانعكاس الإجتماعى.…وبعيداً عن مشاعر وقلق الناس، فان هناك العديد من الدراسات الجادة، بالإضافة إلى كتب مهمة ظهرت فى السنوات الخمس الماضية، توضح مدى تراجع المجتمع الأمريكى، مقارنة بغيره من المجتمعات الغنية، فى مجالات حيوية كالتعليم تحت الجامعى والخدمة الصحية العامة، ناهيك عن الازدياد الكبير فى ظاهرة الإدمان، والعاطلون باختيارهم ، بالإضافة الى ظواهر مثل الانتشار الكبير للعائلات المُفككة.
بعض هذه المشاكل مزمن فى الولايات المتحدة..الجديد هوالبحث الجاد داخل الحزبين الأمريكيين عن عائد الحروب الاختيارية التى دخلتها الولايات المتحدة على مركزها كقوة عظمى – وفى تأثير هذه المشاكل الاجتماعية على عوامل دعم واستخدام القوة الأمريكية فى العالم – والنقطتان، بالطبع، مرتبطتان.
البحث هنا مركب – لسببين. الأول: أن هناك رأياً يرى فى المشاكل الداخلية الأمريكية دليلاً على – ونتيجة – لتغيرات اجتماعية مرت بها الولايات المتحدة فى العقود الثلاثة عقود الماضية، أدت الى تلك المشاكل. وعليه، فإن هذا الرأى لا يربط ربطاً مباشرا بين الحروب وتكاليفها وبين المشاكل الاجتماعية الظاهرة، بالذات فى العمق الأمريكى (بعيداً عن الساحلين: الشرقى على الأطلنطى والغربى على الپاسيفيك).… ولكن الكثيرين من مؤيدى ذلك الرأى يرون الجانب المقابل، وهو ان هذه المشاكل لها تبعاتها على القدرة الأمريكية فى العالم – بمعنى أن تراكمات هذه المشاكل يُضعِف الولايات المتحدة (يُخفف ويُشتت مواردها)، وبالتالى يُؤثر فى قدرتها على استخدام القوة العسكرية لحسم أى صراع.
السبب الثانى الذى يُصعِب البحث متعلق باستحقاقات الفوائد الاقتصادية للحروب وما حققته من أرباح. الرؤية من هذه الزاوية تُظهِر تركز هذه الأرباح فى يد طبقات محدودة، صغيرة، طافية على قمة المجتمع الأمريكى – بينما، من الجانب الأخر، تتركز التكاليف الإنسانية لتلك الحروب، وتبعاتها الاقتصادية، فى الطبقات الوسطى وما تحتها. هذه الوضع يفاقم من مشكلة التوزيع شديد الميل للثروة فى المجتمع الأمريكى، وهى ظاهرة بصورة سافرة، أيضا فى العقديين الماضيين.… وبغض النظر عن النوع الخاص للرأسمالية الأمريكية (وهوأشد شراسة، بكثير، من الأنواع الأوروبية)، فإن الرؤية من هذه الزاوية ليست فقط دالة على تأثير المشاكل الاجتماعية على القدرة الأمريكية، ولكنها أيضاً دالة على تعقيدات كبيرة فى العقد الاجتماعى للولايات المتحدة، وهو تاريخيا الرباط المقدس فى ذلك المجتمع شديد التنوع، الساكن لقارة عملاقة.
إذاً، رؤية العلاقة بين استخدام القوة العسكرية الأمريكية خارجياً ومحركات تعبئة موارد تلك القوة داخلياً – وديناميكيات توزيع عوائد أرباح تلك الحروب – تصل الى نتيجة مؤداها، انه اذا ما تهالك العقد الاجتماعى، تداعت قوة الدولة، داخليا وخارجياً.. هذه النتيجة، وما وراءها من افكار، ستكون فى قلب الحراك السياسى للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
طارق عثمان هومؤلف Egypt on the Brink، الكتاب الأكثر مبيعاً عن مصر فى العالم فى العقد الماضى وIslamism: A History of Political Islam، الصادرين عن دار نشر جامعة ييل الأمريكية، ومؤلف ومقدم عدد من السلاسل الوثائقية لـBBC البريطانية.
- كاتب مصرى مقيم فى لندن