الأمل فى المعرفة أمل باهت صعب الآن إن قيس بما نحن عليه من الكثرة المغرقة الهائلـة السخيفة، التافهة الغاية، السطحية الغرض، السريعة التنقل من عمق إلى عمق آخر أشد خلوًا وبَلَهًا، لا يكاد يمتاز كبيرها عن صغيرها وعارفها عن جاهلها.. اللهم إلاّ الاحتشاد والتجمع ولكن للادعاء والتظاهر والافتخار الخادع الكاذب والجعجعة والتنافس بين الكل على ذلك ليل نهار.. تنافسًا أجوف كله بريق ولمعان فقـط..
لا يسبقه عقل عاقل متزن يفرز ويقلب ويضيف ويحذف ويقدر كل شىء بقدره وسط زحام الأوهام والأحلام، التى تتدفق بلا توقف.. إلى أين؟.. لا أحد يدرى؟!!
هل ننتظر يائسين تدمير النوع البشرى كافة كما دمر من قبله أنواع وألوان من الأحياء اندثروا تمامًا بلا رجعة؟ أم نحقق لبقائنا الآنى ارتقاءً غير مسبوق من شيوع الإنسانية الحقيقية الجادة التى يمكن أن تفيد بما دان لنا من اكتشافات تشهد بكثير الكثير مما فى الفضاء الشمسى بكواكبه وعلاقاته بالكون العظيم من خير عميم.
والعلماء الطبيعيون الآن فى العالم غير قليلين، والكثير منهم كفء فى علمه.. لكنهم لأنانيتهم الغالبة لا يوجهون كفاياتهم إلا إلى أصحاب الصناعة الأثرياء الذين يهمهم ثراؤهم قبل الاهتمام الجاد بأحوال العامة من الناس.. فأغلب أهل العلم الطبيعى وكبار فنييهم منحازون لأشواق الثروة والجاه إلى الأقلية الثرية التى يزيدونها قوة وقدرة ونفوذًا.. فلم يحقق العلم الطبيعى وكفاياته الفنية الغرض المرجو منه قبل كل شىء، وهو خدمة وترقية غالبية البشر.. وقد صار العلم الطبيعى علمًا وحرفة فى زماننا وبداية ونهاية لأصحابه ومدعيه الذين يثبون جميعًا فى البدايات على سلالمه إلى ما قد يتيسر لكل منهم مما يرجوه لنفسه قبل أى غرض آخر!.. لا يتحرك الجميع علماء وجهلاء أغنياء وفقراء حاكمين ومحكومين لا يتحركون إلا فى قبضة الأنا بخيالاتها وأوهامها وألعابها وحماقاتها وأخطارها وبلاياها ونكباتها..
لا يوجد الآن عاقل إلا نادر النادر.. فإذا وجد عز عليه أن يجد من أولاده أو أقاربه أو معارفه أو جيرانه أو معامليه إلاّ ضباب ذات.. كل بغير استثناء!
يلاحظ المتابع المتأمل أننا الآن قد توسعنا بلا استثناء.. عالمنا وجاهلنا وغنينا وفقيرنا وصغيرنا وكبيرنا ومتحضرنا ومتأخرنا.. توسعنا توسعًا هائلاً فى الماديات، وغير الماديات ونسينا إلى حد مذهل داخلنا فيما عدا « أنا » كل منا، فباتت هى كل شىء تقريبا.. هى محور الحياة للآدمى الحىّ باستمرار.. عطاءً وأخذًا وأخذًا وعطاءً.. لا ينقطعان إلى نهاية العمر باطراد يطمئن « الأنا » إلى تحقيق الكسب وتجنب الخسارة، وتحقيق الشبع وكف الجوع.. جوع يتمنى شبعًا، وشبع يفرز جوعًا، وهكذا عطل هذا الاطراد الالتفات الجاد إلى داخل الآدمى.. هذا الداخل الذى كثيرًا ما يكسب العاقل عمقًا وأحيانًا شفافيةً إن لم يتيسر له أن يتعلم شيئًا من العلوم المتداولة فى بيئته.. ولو عرف كل منا تغلغل « أناه » وامتدادها فى حياته إلى آخر العمر لتفطن لطغيانها على كيانه منذ أن يولد إلى أن يموت.. فهو لا يلتفت لكثرة وسعة الامتداد بحضورها فى اليقظة والنوم والصغر والكبر والصحة والمرض والراحة والتعب واليسر والعسر والضحك والبكاء والسرور والخوف ولا يلاحظ مثولها فيما نسميه ذاتية كل منا واسمه وشخصيته فى ماضيه وحاضره وسمعته وأسرته وأهله وبيئته ومكانته وأصله وفصله.. ربما يفيق الآدمى من هذا الاستغراق الشامل المكتسح فيتخفف من إصراره على التشدد الهائل فى التمسك بالأنا.. وهذه الإفاقة إن حدثت لا تحدث إلاّ إفاقة ذاتية صرف مقطوعة الصلة بالغير خلاف ما تعارف ويتعارف عليه الناس فى كل زمان ومكان من التوافق عند إبرام العقود والعهود وإنجاز المعاملات عن رضا أو غير رضا حسب ظروف كل من طرفى التعامل.
ونحن لا نكف عن استعمال العين حتى فى النوم.. وهى عين الأنا عند كل منا، لكنها لا ترى إلاّ ما هو خارجها.. وذلك دائمًا على مسافة ما..لأن الأنا لا ترى.. فأعيننا تراها فقط فى صورة كل منا فى المرآة أو فى نظائرها وأشباهها عما نحفظه ونعتز به وفيما يتخيله كل منا فى صحوه من رجاء أو خوف وفى نومه من الأحداث!
لو تأمل الآدمى فى داخله وفى أحوال الإنسان، واستوعب ما كشفه العلم والفضاء من أسرار الكون وعجائبه وخيراته، لفهم معنى الحياة، وفهم كيف يمكن أن يستوعب معناها وأن يكون فيها كما أراده الخالق البارئ جل شأنه خليفة له سبحانه، يتواصل مع حركة الكون فى صنع وعمار الحياة!
www. ragai2009.com