جلس على مقعده الوثير المنحنى من كثرة ما قبع بداخله صاحبه لفترات مملة طويلة، يحتضن حافة مكتبه المزدحم بعشرات الأوراق والخطابات والصحف والمجالات والأقلام والدبابيس وأجهزة التليفون والفاكس والعشرات والعشرات من التفاصيل الصغيرة.
تفاصيل تضيق عليه الخناق يوميا.. فلا يستطيع الفكاك من أسرها، يلعنها يوميا ألف مرة بنفس درجة نهمه إليها، وسعيه وراء ما تخبئه من أنباء وأحداث.
تفاصيل تحجب عنه الرؤية لأبعد من عدة أمتار تنتهى عند طارة المقبض النحاسى لباب غرفته الموصد فى أغلب الأحوال.
يسترق السمع.. يأتيه صدى أصوات خارجية، ربما أشخاص يتبادلون الحديث خارج الغرفة، أو حتى يتشاجروا – لا يهم – ضحكة نسائية مرتفعة، قد يكون من نال شرف إطلاقها موظف يحاول أن يوقع فى حبائله إحدى الزميلات – أيضا لا يهم – صوت ارتطام حاد بين سيارتين يخترق عنوة زجاج نافذة مكتبه «المتمترس» خلفها صيفا وشتاء، لم تتملكه على الإطلاق حاسة حب الاستطلاع لدس أنفه على سطح زجاج نافذته، لمتابعة تطور الأحداث.
سد أذنيه بقطعتين صغيرتين من القطن الطبى. أخرجهما بلا عناء من مكمنهما فى داخل كيس صغير أسفل ركام الأوراق المتكدس على طرف المكتب، ثم أغمض عينيه، ودفع بظهره مقعده فتحرك به إلى الخلف بنعومة سرعان ما أفاق منها على وقع اصطدام رأسه بالجدار، ارتجت دماغه، وسرت رعشة كهربائية قوية انتقلت من المخ إلى الأطراف، فوجد نفسه يحلق متسائلا بعيدا عن التفاصيل اللعينة.
إلى متى يستمر هذا الحصار؟
هل اخترت المهنة الصحيحة؟ والحياة الصحيحة؟ والأصدقاء؟ ووجهة النظر الصائبة؟ هل كان لدى من الأساس القدرة على الاختيار؟
هل اخترت العائلة؟ الطبقة الاجتماعية؟ نوعية الثقافة؟ والمصالح المعبرة عن كل ذلك؟ ثم ماذا تعنى كلمة صحيح أو صائب؟
وتوالى طوفان الأسئلة يبحث يائسا عن إجابات…..
هل أنا سعيد؟ تعيس؟ محايد؟
لكن ماذا تعنى السعادة؟ وما هو المعيار لقياسها؟
فجأة وجد نفسه فى نقطة زمنية تقذفه إلى خارج سياق التفاصيل، حاول العودة مرة أخرى إلى المسار، عجز، توقف عن المحاولة، استسلم للحظة، والغريب أنه شعر بنوع من الراحة، لم يعد يتذكر المرة الأخيرة التى انتابته فيها من قبل!!
ربما تكون الفرصة الأخيرة لتعديل المسار.
هكذا تردد صدى بداخله.
تجسدت له لأول مرة منذ سنوات طويلة صورة بانورامية لحياته تتجاوز التفاصيل الصغيرة، أفزعه هول ما تراءى له، فانتابته رغبة عارمة فى التغيير.. تغيير شامل، المهنة، نمط الحياة الاجتماعية، الوجوه، الطموح، طبيعة ما يرتديه من ملابس، وما يرتاده من أماكن، حلاقه الخاص، ساعى مكتبه، ساعة يده الفضية الكلاسيكية، نوع العطر الحريمى المفضل لديه، والذى لم يتغير منذ عشرات السنين، وربما لم يعد له وجود الآن فى دنيا النساء.
أمدته ثورته بالمزيد من الراحة، فقرر الاسترسال.
لابد أن أعود إلى عزف الموسيقى. وممارسة رياضة الجرى. ومداعبة الأطفال، والانغماس بسعادة حقيقية فى تأمل وجه امرأة جميلة عابرة، مضت سنوات لم أمارس فيها ذلك.
لن تشغلنى التفاصيل الصغيرة مهما توالت وتكاثرت، ولن تعوقنى الطموحات والأهداف الكبيرة مهما عظمت، عن القفز فى أمواج ثورة التغيير الشامل.
حتما ستقودنى الثورة إلى إجابات قطعية على الأسئلة الحائرة.
انتابه الحماس، هز رأسه بعنف وهو يدق بقبضة يده على سطح المكتب الخشبى. ارتجت التفاصيل الصغيرة المكدسة، وسقطت إحدى قطعتى القطن الصغيرتين من أذنه فاخترقها رنين جرس الهاتف، مد يده بتلقائية، رفع رسغه السماعة ببطء إلى أذنه الخاوية، سمع بالكاد صوتا يأتيه من بعيد، أجابه برتابة، ازدادت حدة الصوت تدريجيا فاستيقظت معه شيئا فشيئا بعض خلاياه التى كانت قد خلدت إلى النوم.
فتح عينيه مرة أخرى. نزع قطعة القطن الصغيرة المتبقية من أذنه، عاد إلى الوعى من جديد، – أو ربما عاد منه – تلاشت حالة الفتور، استقبل محدثه باللهفة المعتادة، واشتبك مرة أخرى فى معركة التفاصيل الصغيرة، لم يعد قادرا على انتزع نفسه من السياق، بل لم تعد لديه من الأساس الرغبة فى ذلك.
والأغرب أنه لم يعد يتذكر أيضا أنها ربما تكون الفرصة الأخيرة!.