يعصف بالعالم – وليس مصر وحدها – حقبة زمنية حرجة، جعلت من الشدّة ختامًا للربع الأول من القرن 21 ! كوارث طبيعية عالمية، أزمات سياسية دولية، أشباح حرب عالمية ثالثة، توقعات فيروسات جديدة، تغيرات جيوسياسية، اختناقات مالية عالمية، مدن بأكملها تحت القصف والجوع والظلام، تشتت فى موازين القوى العالمية والإقليمية، إعادة صياغة لزخم من المفاهيم والمبادئ والإستراتيجيات، وغيرها من ظواهر الشدّة والحصار الفكرى والمصيرى للشعوب والمجتمعات (كورونا كانت التجربة الأولى)! قديمًا قيل “بعد موت عبد الوهاب توقع أى شيء فى الفن والمجتمع”! وحديثًا “بعد موت الملكة إليزابيث توقع أى شيء فى السياسة الدولية”! هناك أوتاد مجتمعية – ظاهرة أو مخفية – يفرض وجودها نوعًا من الاحترام والاحترافية والقواعد واللياقة فى أداء المجتمع وأفراده. يمكن مقارنة ذلك بزمن “إيلون ماسك” أو الأمير الأسود أو الغامض وأعضاء ناديه فى أزمة القرن الـ21! فمن غير المستبعد أن هذه الشدّة العالمية مصنوعة وليست قدرية! فخاصة الخاصة سرّبوا لخاصة العامة فكرة المليار الذهبي، وبدأ العالم كما نعرفه يُدار بالأزمات المصنوعة من قمة الهرم لقاعدته، ثم ترتد منها لقمّته، فى إستراتيجية محسوبة يوظَّف فيها الزمن وبيادق الدول لإعادة تشكيل رقعة الشطرنج.
كل ما سبق لا يغير أن الدنيا ثوابت ومتغيرات! فالجغرافيا ثابت، والتاريخ متغير يكتبه سيف المنتصر وليس قلم الحقيقة! الشعوب ثوابت، والنظم متغيرة، الحقائق ثابتة، والمبادئ متغيرة! ومن هنا كان خطأ التفكير والتخطيط والتعامل والعيش مع الشدّة، بوصفها أصبحت ثوابت! لأنها بطبيعتها متغيرة، يصنعها ويديرها متغيرون، تحكمهم مصالح ومبادئ متغيرة! بما فى ذلك الحروب، الديون، الأسعار، فجوات الطبقات، إفساد الوعى الجمعي، تهرؤ النسيج المجتمعي، اختفاء القدوة موتًا أو قهرًا أو قسرًا، تحالفات الموت، وتجارة الجوع والخوف… إلخ. فعندما يتصف الزمن بالشدّة، فهى تنال من مكوناته القابلة للتلاعب بها، مثل البطون، والعقول، والقلوب، والأهواء!
عندما يكون زمن الشدة فى العموم، فهو لا يقاس بالشهور أو السنين، أو تغير الحكام أو القوانين، أو انخفاض الأسعار وتحسن الدخل! لا يقاس بعودة البسمة أو عودة التخمة للجيوب وصفاء البال؟ فى عام الرمادة عندما أوقف عمر بن الخطاب حد السرقة لتفشى الجوع، وأمسك بأحدهم يخرج من الديار خشية الهلاك مسائلًا: (هل تهرب من قدر الله؟ فأجاب: بل من قدر الله إلى قدر الله)! لأن زمن الشدّة المصنوع عمره قصير ولو طال! الفكرة فيما بعد الشدّة! هل سنكون كما نحن عليه أم شملنا التغيير واقتحمنا ونحرنا، ولم تبق فينا أنفاس لنستأنف مع الجغرافيا ثباتها ونتجنب مسخ التاريخ؟
أعيش كغيرى زمن الشدّة جغرافيًّا وتاريخيًّا، وحيثما توجهنا تتكلم الشكوى لغات العالم! وأصبح التوجس من عواقب فوز ترامب، والتقارب الروسى الكورى الشمالي، ودخول أوكرانيا الناتو، وابتلاع إسرائيل غزة وحواشيها وشق قناة بن جوريون، وشائعات امتياز القناة، واتفاق جنوب السودان مع إثيوبيا لتحصين سد النهضة، واحتمالية شراء مصر للمياه مستقبلًا، ومحاصرة أوروبا للإسلام، وبدء صراع الذكاء الاصطناعى والروبوت للإنسان، وعلامات الحرب العالمية، والتقارب الإيرانى الإسرائيلي، وتطورات الخليج المُلغزة وتغوُّله فى مصر، واحتماليات الحج للقدس، وتفشى الصين فى أفريقيا وانحسار فرنسا منها، وتكرار نغمة ظهور الدجال والسفياني، ونشر المثلية دوليًّا.. إلخ، كل ذلك يقول إنه زمن الشدّة ونضج ثمار الخبث القديم، لطى صفحة وبدء صفحات جديدة، لن يكون فيها معنى وشكل الفرَج كما نعرفه أو عهدناه!
من هنا أفكر وأتصور كيف سيكون فرج مصر والمصريين بعد الشدّة؟ كيف ستكون جغرافيتنا ووعينا الجمعى فى 2040؟ يحدد الوعى الجمعى مصير الجغرافيا، وبالتالى تاريخ المستقبل وتنميته! تزدهر التنمية الحقيقية، كرؤية غوستاف لوبون، نتيجة التغير الكلى التدريجى بأفكار الناس وتصوراتهم ومعتقداتهم، وليس بالتطورات السياسية أو الإزاحات العظيمة، التى تعقبها بآليات لتقويم الاعوجاجات القديمة بمنطق “كن فيكون”، ولو على غير رأى الجماعات أو الشعب! مما لخصه لوبون فى 1895 (أمسى مصير الأمم راجعًا لما تحمله روح الجماعات، لا لما يراه أصحاب مشورة الأمراء)! ومن هنا يمكن فهم جزء من أبعاد زمن شدّة منابع الوعى الجمعى الحالي، فى التعليم والدين والثقافة والإعلام وحركة المال! وهو ما قد يطيل زمن الشدّة ليطول الجغرافيا فيتغير تاريخ المستقبل! ومع ذلك وتفعيلًا لمبدأ السيرورة الدالة على مسار المجتمع والشعب، ثم صيرورة ما صارا له، وانتقالهم من حالة لأخرى، أو تثبيت مرحلة تاريخية أو نكوصها.. فاننى أتوقع أن فرج الشدّة تتم مقاومته عالميًّا بشدة أكبر وأعمق، لتأخير زمن الفرج والإدارة بزمن الشدّة!
طبيعيٌّ فى الإستراتيجيات المُحكمة، أن يعاصر الأزمات الكبرى انفراجات بصورة ملاهٍ للعقل والجسد، وحتى الروح! فتكون الانفراجات بعد المحظورات، وتمرير الشك فى الثبات، والتنوير المظلم، إجازة صناعة التضليل والخوف وتحريف الحب، تبرير الزلات وتبسيطها، تقنين الحروب النفسية وغسيل الأدمغة، برامج الإلهاء والتلاعب السياسي، والثقافي، والديني، والاجتماعي! المحصّلة تعويد الناس على سيرورة مفهوم زمن الشدّة، ليتحول إلى صيرورة تاريخية، يُصنع فيه الفرَج بمعايير ودرجات وتوقيت الصُناع! وبالتالى تتحول صيرورة روح الجماعات إلى تعاطى الشدّة كمخدر، يُعينهم على زمن لا يريدون تغييره؛ لأن وعيهم مُخدَّر بحكمتها، ورموزها، وبروتوكولاتها، وخطورة فكها أو تجاوزها أو الخوف مما يليها! الأزمة الحقيقية هى تعوّد وتحور وتمكن الشدّة وترسيم خلفائها، وانصياع وعينا الجمعى لرعاة يسوقون حواسنا وأذواقنا وبطوننا وجيوبنا، فلا نعرف إجابة معنى كيف نصل للفرج بعد الشدّة؟ ولا أين سنكون بعدها؟
* محامى وكاتب مصرى