الغرب وثورتنا وحقوق الإنسان

توفيق اكليمندوس

10:26 ص, الأحد, 3 مارس 19

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:26 ص, الأحد, 3 مارس 19

الثورات الكبرى فى التاريخ حققت إنجازات عظيمة كان ثمنها مذابح مهولة. نحن ننسى اليوم ثمنها… الثورة الفرنسية قتلت مئات الآلاف والروسية والصينية راح ضحيتهما ملايين من الناس. الثورة هى انتفاضة تجمع مئات الآلاف أو ملايين من أطياف وطبقات ومشارب متباينة تُجمع على رفض نظام الحكم ولكنها تختلف حول المرجو… إصلاح مهم أو إعادة تأسيس وشكل تلك الإعادة. والثورة عملية تاريخية طويلة.

أزعم أن الكثيرين فى الغرب –ولا سيما من يقدس الثورة ويقيمها صنما يعبد ويؤله- نسوا الوجه المظلم المتعطش للدم لأسباب، تعود إلى تاريخهم الحديث. مايو 68 فى فرنسا كانت حفلة لا تكلفة كبيرة لها وحققت أغلب أهدافها باستثناء قلب نظام الحكم٬ حققتها لأن السلطة كانت تملك القدرات والرغبة فى الحل. وهى حفلة قصيرة نسبيا (شهر) وخفيفة الظل وقليلة التكلفة نسبيا…لا سيما إذا وضعنا فى الاعتبار كون فرنسا دولة غنية. ثورات أوروبا الشرقية فى أواخر الثمانينات كانت فسحة… فالأنظمة انهارت دون مقاومة تذكر ٬ وتم بناء نظام سياسى ديمقراطى بسلاسة نسبية ودون تكلفة.

لن نتعرض هنا لاستقرار أو ضعف تلك الأنظمة الوليدة مكتفين بإشارة سريعة إلى ما يسمونه نكسة الديمقراطية فى بولندا التى تتحول تدريجيا إلى نظام سلطوى لا «يحترم استقلال القضاء» ويجافى قيم الليبرالية السياسية… ما يهمنا هنا هو أن التجربة التاريخية الحديثة لعبت دوراً فى ترسخ قناعة أن الثورة هى مجرد أداة تسرع من عملية الانتقال الديمقراطي…الذى يعتبر المراد والهدف والمفتاح للفهم

ولذلك تجد أن غالبية المحاولات الغربية لفهم ما حدث فى العالم العربى منذ 2011 تبنت مقاربة هى مقاربة الانتقال إلى الديمقراطية٬ وأقامتها معياراً للحكم على التطور التاريخي. وهذه المقاربة لها وجاهتها ولكن لها أيضا عيوباً تعوق الفهم. فعلى السبيل المثال لا الحصر ترفض تلك المقاربة فرضية أمهات الكتب التى ترى أن إقامة الديمقراطية تفترض سياقا سياسيا واجتماعيا وثقافيا ملائما وجاهزا أو على الأقل غير معادٍ. هذا الرفض دافعه نبيل، لأن الطاغية سيحرص دائماً على منع ظهور البيئة الصالحة. سيبث الجهل والقيم السلبية وثقافة الخوف وسيعمل جاهدا على تفتيت المجتمع لكى يكون أى عمل جماعى من المستحيلات. ولكن النبل ليس قيمة علمية٬ والفرضية البديلة ترى أن إقامة مؤسسات ديمقراطية سيخلق بسرعة البيئة الملائمة الديمقراطية. وهذا الكلام قد يكون صحيحا فى بعض الأحوال ولكنه ليس صحيحا دائما. ويبدو فعلا كأنه تفكير بالتمني.

وتفرز تلك الفرضية كلاما يعوزه الدقة٬ يرى مثلا أن كل عوائق الديمقراطية من صنع الحاكم٬ وأن إصدار بضعة قوانين وتنظيم حملات توعية يكفيان لتغيير ثقافة سائدة بين الليلة وضحاها٬ وأن المجتمع المتلقى للمواعظ وفصائله سيرحبون بها ولن ينقسموا حولها انقساما قد يكون خطراً. إلخ،

لكن الذى يهمنى هنا أن المقاربة وفقا لمنطق الانتقال الديمقراطى تنسى أو تتناسى أن مصر شاهدت ثورة بالغة العمق والعنفوان٬ وأن منطق الثورة والمد الثورى ليس منطق الديمقراطية. صحيح أن مصر فى 2011 و2012 احتكمت إلى انتخابات لخفض التوتر وللمفاضلة بين المشروعات المطروحة على الساحة٬ ولكن الثورة هى الأصل والمفتاح المفسر للأحداث.

ونوضح بمثالين الفارق بين الثورة والانتقال الديمقراطى… فى الثورة الشعب ينزل الشارع يفرض إرادته٬ فى الديمقراطية ينتخب الشعب ممثليه٬ فى الثورة قوى النظام القديم تحظر٬ فى الديمقراطية يحدد الناخب مصيرها من التمثيل ومن السلطة.

مقاربة الثورة والمقارنة مع ثورات أخرى تعلمنا أن البونابرتية مخرج طبيعى للاستقطاب. وتبنى تلك المقاربة له نتيجة يرفضها أعداء النظام… وهو أن البونابرتية نظام طبيعى فى تلك الأحوال.

  • أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية