أحدثت تقنية سلاسل الكتل أو «block chain»، طفرة تكنولوجية جديدة فى أسواق المال والمصارف العالمية؛ بعد أن أصبحت الكثير من المؤسسات المالية تعمل على الاعتماد عليها؛ والتى تُعد أحدث التقنيات التى تعمل على معالجة المعاملات وتخزين البيانات بشكل معقد وآمن وسريع، وهى إحدى التقنيات التى أتاحها التوزيع العالمى لقدرة الحوسبة.
وساعدت تلك التقنية خلال السنوات الماضية فى القدرة على كسب المال من خلال استخدامها فى تصميم نظام العملات المشفرة وتنظيم عمليات التداول والمضاربة والتى تأتى فى مقدمتها عملة «البتكوين».
وبحسب ورقة بحثية نشرتها الأمم المتحدة أعدتها كاثى موليغان الباحثة الزائرة بمركز إمبريال كوليدج لأبحاث وهندسة العملة المشفرة؛ وعضوة فى الفريق الرفيع المستوى للأمين العام للأمم المتحدة المعنى بالتعاون الرقمى، فإن تقنية سلسلة الكتل لا تزال جديدة وستتطور عدة مرات قبل أن يتم دمجها بالكامل فى المجتمع، وأن هناك مسارات مماثلة من قبل فى صناعة التقنية مرت بعدة مراحل؛ منها إنترنت الأشياء والهاتف المحمول، وأنه من المفيد غالبًا التعامل مع التقنيات الناشئة ببعض التفكير العميق ليس من خلال توقعها أن تعمل فورًا كحل فعال تمامًا ولكن كوجهة نظر ممكنة. وبالتالى لا تكمن قوة تقنية سلسلة الكتل «البلوك تشين» فى التقنية نفسها، بل فى كيفية إعادة صياغة العديد من المناقشات عبر أجزاء مختلفة من مجتمعنا واقتصادنا.
وأثار الزخم الحاصل مؤخرًا حول العملات المشفرة وصعود أسعارها لمستويات تاريخية قبل أن تعاود الانخفاض مجددًا، التساؤل حول تأثير تداول العملات المشفرة من خلال تقنية سلاسل الكتل على النظام الاقتصادى العالمى، وما مدى إمكانية تبنى أحد البنوك المركزية العالمية إصدار عملة مشفرة، وذلك فى ظل رفض البنوك المركزية العالمية ذلك الاتجاه، وعملهم بشكل أوسع على إصدار عملات رقمية التى تختلف اختلافًا كبيرًا عن العملات المشفرة الموجودة حاليًا بحسب ما أشار إليه مسح صاد عن بنك التسويات الدولية إلى أن %90 من من البنوك المركزية حول العالم، تعمل حالياً على إصدار عملاتها الرقمية.
وحذرت العديد من البنوك المركزية العالمية ومن بينها البنك المركزى المصرى، التعامل بالعُملات المشفرة أو الإتجار فيها أو الترويج لها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها، وأكد فى تحذير جديد له مارس الماضى، على أهمية الالتزام بما تقضى به المادة (206) من قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى الصادر بالقانون رقم 194 لسنة 2020 من حظر إصدار العُملات المشفرة أو الإتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها.
وطبقا لقانون البنك المركزى المصرى رقم 194 لسنة 2020، يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز عشرة ملايين جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من خالف أيًا من أحكام المادة 206 من قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى، وأنه فى حالة العودة لمخالفة أحكام المادة 206 من القانون، يحٌكم بالحبس والغرامة معًا.
وترى سهر الدماطى، نائب رئيس بنك مصر السابق والخبير المصرفى: أن العملات المشفرة يتم إطلاقها بآلية غير واضحة وعن طريق كيانات وهمية ولا تخضع لجهات رقابية، بل يتم التداول والمضاربة عليها عن طريق منصات إلكترونية بعيدة عن البنوك المركزية.
وأوضحت أنّها ترفض أيّ نظام ليس له جهة رقابية تُشرف على أنشطته خاصة فى القطاع المالى والمصرفى، مشددة على ضرورة التنسيق بين البنوك المركزية حول العالم ومُطلقى تلك العملات وأصحاب منصات التداول عليها.
وتابعت الدماطى أنّ تلك العملات باتت تنتشر كالنار فى الهشيم بشكل موسع عالميًا، فيما أوضحت أنّها تُشبه القِمار فى تداولاتها التى تتصف بالتقلب الشديد وذات منهجية غير واضحة.
وحذرت من تبعات انتشارها على نطاق أوسع مستقبلًا وتأثير ذلك على حجم السيولة النقدية فى النظام الاقتصادى العالمى، ومخاطر السماح بها على اقتصادات الدول وأنظمتها المصرفية.
وأضافت الدماطى أنّ سوق التداول على العملات «الفوركس» أكثر استقرارًا مقارنة مع العملات المشفرة؛ وذلك لأن العملات الرسمية يُعرف تابعيتها لكل دولة بعينها والتى تعلم جيدًا حجم السيولة المطروحة من جهتها ويمكن ضبط السوق حال حدوث تقلبات شديدة.
ولفتت الانتباه إلى ضرورة وضع سقف أو إطار عام تتفق عليه الدول فى الوقت الحالى لطبيعة المضاربة على تلك العملات، فيما أوضحت أنّها لن تنجح فى إنهاء النظم المصرفية لأن النقود ليست الأساس الوحيد الذى تقوم عليه البنوك.
وفى إطار التحول الرقمى والتطور التكنولوجى أشادت الدماطى بتلك الجهود من الدولة المصرية، موضحة تأييدها للعملات الرقمية والتى تخضع لقوانين ورقابة البنوك المركزية.
وأردفت أنّ العملات الرقمية من شأنها تسريع وتيرة إتمام مختلف المعاملات المصرفية والعمليات التجارية بين الأفراد والمؤسسات والدول.
وتتم عملية تعدين العملات المشفرة باستخدام أجهزة الكمبيوتر لحل الخوارزميات وفك الشفرات الرياضية المعقدة، وذلك عبر حفظ البيانات وعمليات التداول وتسجيلها من خلال تقنية «سلسلة الكتل».
شهاب حلمى: أمر واقع وباتت تفرض نفسها على الساحة الدولية ولابد من الاستعداد لها
وقال شهاب حلمى، محلل قطاع البنوك ببنك الاستثمار برايم: إنّ العملات المشفرة باتت «أمر واقع» فى التعاملات المالية عالميًا، والتى فرضت وجودها تدريجيًا بين الشركات المختلفة والنظم المصرفية.
وأوضح أنّ البنوك المركزية شرعت فى تخفيف حدة تخوّفاتها نحو تلك العملات، وذلك عقب التحذيرات المستمرة نظرًا للقصور الرقابى عليها والتى قد يستخدمها البعض فى تمويل الأنشطة غير المشروعة.
وأضاف أنّه من الضرورى فى حال شرعنة استخدامها على نطاق أوسع عالميًا أن يكون لها غطاءً نقديًا، فيما حذر من مخاطرها على أموال المستثمرين نظرًا لتقلباتها الشديدة فى السوق المالى.
وأردف شهاب أنّ الوعى الدولى حول العملات الرقمية والمشفرة لا يزال ينتشر سريعًا، متوقعًا السماح بها فى السوق المصرية على المدى المتوسط، فيما أوضح أنّ سوقها يشبه «الفوركس» فى بعض الخصائص.
وبخلاف الانتقادات الموجهة للعملات المشفرة، إلا أن هناك انتقادات شديدة لتعدين تلك العملات والتى تستخدم كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية والتى تؤثر بدورها على البيئة؛ نتيجة الانبعاثات الكربونية الناجمة عن توليد الكهرباء، حيث قال بنك أوف أمريكا فى تقرير له، إن انبعاثات ثانى أكسيد الكربون الناجمة عن استثمار كل 1.5 مليار دولار جديد فى عملة «البيتكوين» تعادل تقريبا الانبعاثات التى تسببها 1.8 مليون سيارة.
وأضاف: «نعتقد أن المستثمرين (البيئيين والاجتماعيين والحكوميين) المهتمين بالحوكمة البيئية والاجتماعية يجب أن ينتبهوا للتكاليف البيئية الهائلة لعملة (البيتكوين)».
وليد جاب الله: تحولت من أداة للشراء عبر التطبيقات الإلكترونية للمضاربة
وقال وليد جاب الله، الخبير المصرفى وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى والإحصاء، إن العملات المشفرة بدأت فى منتصف التسعينات من القرن الماضى للمتاجرة بها فى بعض التطبيقات الإلكترونية.
وأوضح أنّ السوق العالمى بات يتنافس فيه نحو 10 آلاف عملة رقمية فى طور التوسع وإثبات رواجها على الساحة الدولية، مشيرًا إلى أنّها مرحلة تطورية طبيعية فى تاريخ تداول النقود فى ظل الثورة التكنولوجية حاليًا.
وأشار إلى أنّه يصعب على المحللين التنبؤ بحركة السوق مستقبلًا لطبيعة تلك العملات غير المستقرة، فيما أكّد أن البنك المركزى لا يزال يحذر من الاستثمار فيها لعدم قدرته على حماية المضاربين وأموالهم.
تجدر الإشارة إلى أنّ البنك المركزى المصرى أتاح للبنوك إصدار وحدات النقـود الإلكترونية وذلـك بعـد الحصـول علـى موافقتـه، على أن تلتزم بأن تعـادل كل وحـدة نقود إلكترونية فـى خدمـة الدفـع باسـتخدام الهاتـف المحمـول قيمة نقدية تساوى جنيها مصريا واحدا.
وقال البنك المركزى المصرى، فى الإصدار الثالث للقواعد المنظمة لتقديم خدمات الدفع باستخدام الهاتف المحمول، فى أبريل الماضى، إن البنك مُصدر وحدات النقود الإلكترونية يشغل نظامًا لإدارة سجلات النقود الإلكترونية بشكل كامل ودقيق ومستمر، ويوضح هذه السجلات قيمة النقود المصدرة ومستخدمى النظـام ومقدمى الخدمة وبيان رصيد الحسابات الخاصة بكل منهـم إجمالى هـذه الأرصدة.
وبالرغم من اعتماد كلا العملتين الرقمية والمشفرة على تقنية «البلوك تشين»، إلا أنّ العملات المشفرة لا تخضع لرقابة البنوك المركزية بخلاف نظيرتها الرقمية التى تخضع لتنظيم الدول التى سمحت بها وفقا لسياستها النقدية وهى تمثل الشكل الافتراضى للعملة الورقية للدولة وتحمل تسلسلًا مميزًا لمنع تزويرها، وذلك بحسب بنك التسويات الدولى.
سمير الشيخ: لا يمكن السماح بها فى مصر لاحتمال استخدامها فى أنشطة غير مشروعة
من جانبه قال سمير الشيخ، الخبير المصرفى: إنّ العملات المشفرة لا تصلح فى الوقت الحالى للسماح بها فى دول العالم الثالث، لأنّه قد يتم استخدامها فى جرائم مثل تمويل الإرهاب أو غسيل الأموال، فضلًا عن دعم الجرائم الإلكترونية المتنوعة فى الوقت الحالى.
وتوقع انتشار العملات المشفرة والرقمية على نطاق أوسع فى المدى المتوسط، إلا أنّه اشترط وجود آلية رقابية جديدة مستقبلًا لإحكام تقلباتها الحادة، موضحًا أنّ عملية الرقمنة الشاملة والتقدم التكنولوجى سيرفع قابلية المستثمرين نحوها.
وأوضح أنّ العملات الأكثر قانونية والأقل تقلبًا ستسيطر على غالبية السوق فى المستقبل القريب، مشيرًا إلى تجربة الصين التى تحاول وضع إطار قانونى للسماح بتلك العملات فى سوقها المحلى.
وأضاف الشيخ أنّه لا يمانع وجود عملات مشفرة فى السوق المصرفى المصرى ولكن بضوابط قانونية وتحت إشراف البنك المركزى، موضحًا أنها مستقبل التعاملات المصرفية فى المجتمع الدولى ولكن مع استمرار النقود الورقية.
يذكر أنّ بنك الشعب الصينى (البنك المركزي)، أعلن فى أبريل الماضى أنّه يدرس وضع قواعد تنظيمية لعملة «بيتكوين» والعملات المشفرة الأخرى، باعتبارها أداة سيتم استخدامها على نطاق موسع للدفع فى المستقبل، فيما شدد على ضرورة إخضاعها لرقابة صارمة مثل المؤسسات المالية المتنوعة.
إبراهيم حسنى: التعاملات المصرفية تحكمها قوى العرض والطلب مستقبلًا وليس البنوك المركزية
وقال إبراهيم حسنى، المحلل المالى ورئيس مجلس إدارة شركة يوتوبيا للاستشارات المالية والتسويق: إن تكنولوجيا العملات المشفرة تعادل ثورة ظهور الإنترنت خلال القرن الماضى، موضحًا أن محاولات إيقافها او التصدى لها لن تُجدى نفعًا فى ظل التوسع الاستثمارى العالمى فيها والرغبة الدولية فى تقنينها.
وأوضح أنّ التعاملات المالية والمصرفية ستحكمها قوى العرض والطلب مستقبلًا وليست البنوك المركزية، مضيفًا إلى أنّ تقنية «البلوك تشين» من المتوقع أن تتبناها مختلف القطاعات على الساحتين الدولية والمحلية؛ نظرًا لإمكانية تخزين العديد من الملفات من خلالها.
وتابع حسنى أنّ البنوك العالمية والمصرية تستعد لاستخدام تلك التقنية عن طريق تجهيز أنظمتها وبناها التحتية، مشيرًا إلى عملية التحول الرقمى واستراتيجية الشمول المالى التى تولى الدولة اهتمامًا كبيرًا لها.
وأرجع أسباب رفض معظم البنوك المركزية لتلك العملات؛ لتخوفهم من التهرب الضريبى واتساع الفجوة بين إحكام الرقابة ومنع الجرائم المالية، فيما يتوقع السماح بها فى مصر على المدى الطويل حال تجهُّز السوق المصرية لذلك.
وأضاف أنّ سوق الفوركس مشابه بشكل كبير للعملات المشفرة رغم تقلباتها الشديدة، والتى ترجع لعدد المستثمرين الكبير فى المضاربة عليها من مختلف أنحاء العالم.
يمن الحماقى: يتعين على الحكومات دمجها تحت مظلة النظام المصرفى ووضع ضوابط للاستثمار فيها
وقالت يمن الحماقى، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس: إنّ الواقع التكنولوجى يفرض وجوده فى كافة القطاعات خاصة المالية والنقدية، موضحةً أنّ تلك العملات تقتحم النظام المالى العالمى بضراوة وتستخدم بنسبة ليست قليلة فى الأنشطة غير القانونية.
وأوضحت أنّ مُطلقى هذه النوعية من العملات يستهدفون تحرير النظم المالية حول العالم من سلطة البنوك المركزية، والتى ستُغير ملامح التعاملات المصرفية على الساحة الدولية مستقبلًا.
وتابعت الحماقى أنّ العملات المشفرة تُسهل التعاملات المالية بشكل كبير نظرًا لمرونتها وسرعة إجراء المعاملات عليها من مختلف المنصات المطروحة حاليًا وعبر الهاتف المحمول.
وأكّدت على ضرورة دمج تلك العملات فى النظم النقدية لكل دولة على حدّها وإخضاعها لرقابة البنك المركزى، فيما شددت على ضرورة وضع إطار دولى متفق عليه بين الدول يُمكن مراقبة حركتها ومنحها المزيد من الاستقرار للحماية من التقلبات غير الموضوعية فى السوق.
وأوردت أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس، أنّه يتعين تجهيز مختلف المؤسسات المصرية والقوى البشرية للتكنولوجيا المالية المستقبلية وتدريب الكوادر لمواكبة التغيرات فى المجتمع الدولى فى أسرع وقت ممكن.
وشهدت العملات المشفرة منذ مطلع العام الجارى، ارتفاع معدلات المضاربة فيها على نطاق أوسع عقب تبنى العديد من الشركات العالمية الاستثمار بها مثل شركة تسلا المملوكة لرجل الأعمال إيلون ماسك والتى استثمرت فيها 1.5 مليار دولار فى فبراير الماضى، الأمر الذى دفعها خطوات للأمام لاختراق مستويات أسعار تاريخية، قبل أن يعرقل إيلون ماسك توسعها بعد أن انتقد تعدين العملات المشفرة بسبب التأثيرات المرتبطة بالبيئة، قبل أن يعاود مجددًا دعمه لتلك العملات، قائلًا خلال مؤتمر «ذا بى وورد» الأسبوع الماضى -بحسب وكالة الأنباء الألمانية- إن تسلا ستقبل فى المستقبل على الأرجح عملة البيتكوين كوسيلة للدفع، وأن شركته «سبيس إكس» تمتلك عملات بيتكوين ولا خطط لديه لبيعها.
وبحسب رؤى المصرفيون والمحللون، فبالرغم من واقعية انتشار العملات المشفرة الغير محدودة فى الآونة الأخيرة وانقسامهم حولها، إلا أنّ التداول على العملات المشفرة والمضاربة عليها سيكون بداية لتغيير ملامح النظام الاقتصادى العالمى والنظم المصرفية حتى وإن لم يتم شرعنتها بشكل واضح.