هناك إعصار فى النيويورك تايمز، الجريدة الأهم والأشهر فى العالم. مقال كتبه سيناتور أمريكى يدافع فيه عن قرار الرئيس دونالد ترامب بدخول الحرس الوطنى لحماية منشآت عامة فى عدد من المدن الأمريكية أثار جدلاً شديداً. وموافقة رئيس قسم الرأى فى الجريدة على نشر المقال جرت تداعيات ما زالت الجريدة ودوائر مهمة محيطة بها فى أوجها. والمهم هنا ليس تفاصيل ما يحدث داخل النيويورك تايمز وليس رأى السيناتور الامريكى. المهم هو ما يحدث بشكل عام داخل قلاع الليبرالية الغربية، خاصة الأمريكية.
هناك عقلية دفاعية، ترى فى صعود اليمين (خاصة المتحالف مع قوى مسيحية شديدة التدين، كما تعرفه هي) خطراً داهماً على المجتمع الغربى عامة، والأمريكى خاصة، ولأن الصعود خرج من الوسط والجنوب الأمريكيين (وهى معاقل تاريخية لليمين المتدين) إلى الساحلين الشرقى والغربى (وهما مركز الثروة والفكر) وأخيرا وصل إلى واشنطن نفسها (قلب القرار السياسى فى الولايات المتحدة)، هناك خوف … الليبرالية الأمريكية تنظر حولها وترى انحساراً لنفوذها وتراجعاً لسطوتها، ليس فقط على أجهزة الدولة الامريكية ولكن أيضاً على فكرة أمريكا نفسها.
الخوف عادة يُولِد اللجوء إلى الدفاع. والدفاع كثيراً ما يؤدى إلى تصرفات عصبية، مثل الرفض السريع وردود فِعل أكثر شدة (وأحيانا عنفاً) من الفعل نفسه. وهذا يبدو واضحاً الآن فى مؤسسات كبرى كانت لعقود مراكز قوة لليبرالية الأمريكية.
العقلية الدفاعية، والأخطاء التى تجرها، تضعف الموقف وصاحبه. ليس فقط أمام الآخر (التيارات اليمينية الصاعدة بقوة) ولكن الأهم أمام مؤيدى الليبرالية أنفسهم. ذلك لأن قلب قوة الفكر الليبرالى قائم على التسامح العقلى والقبول بالآراء المختلفة والخروج من سجون تصور معرفة الحقيقة ومن ثم تكبل الخيال والإبداع. باختصار، جاذبية الفكر الليبرالى كانت دائماً قائمة على انفتاحه. فإذا كان الخوف والدفاع ذاهباً به إلى الانغلاق، فَقَد معجبيه ومناصريه، والأهم فَقَد جوهره.
هناك أصداء لكل ذلك، واصلة إلى خارج الولايات المتحدة. أمريكا – سواء أعجب المرء بها أو كرهها – كانت ولا تزال الدولة، والهيكل السياسى الأهم والأكثر تأثيراً فى العالم، وفى الكثير من أنحاء العالم، كان التأثير الأمريكى دائماً قائماً على القوة الناعمة للولايات المتحدة، وفى عمق هذه القوة الناعمة كان هناك إغراء المساحات الكبرى المفتوحة فى فكرة أمريكا، سواء المساحات المهولة فى غرافيتها، وفى الفرص الاجتماعية، وفى الثراء، أو فى الفكر … كن ما تريد أن تكون، كانت دائماً قاعدة فى الوعى الداخلى لأمريكا .. فإذا انغلقت العقول وانكمشت الفرص والحريات وصَغُرت المساحات التى تجول فيها الأفكار، ضاع الكثير والكثير مما بنى تلك القوة الناعمة.
ادراك ذلك الخطر هو ما أثار الإعصار فى النيويورك تايمز، رؤية المساحات تقل هو ما فجر حوارات حول ما الذى يحدث لليبرالية الأمريكية.
الحوارات مفيدة، والأهم أن إدراك الداء بداية العلاج، لكن القلق الواضح لمتابعى الولايات المتحدة هو أن العقلية الدفاعية ناجمة عن خوف كبير من ظاهرة حقيقية وفى ازدياد (الصعود القوى لليمين المتزمت). والتساؤل هو: عن قدرة الليبرالية الأمريكية أن تواجة ما تراه خطراً دون أن تفقد المبادئ التى قامت عليها والتى أعطتها أهم مولدات قوتها.
* كاتب مصرى مقيم فى لندن