“العالم بات يعرفنا”.. هذا أبلغ تعبير خرج من مشجع سوداني يُدعى تشول ديفيد ويبلغ من العمر 22 عامًا، بعد أن حقق منتخب بلاده إنجازًا تاريخيًا لم يتكرر من قبل، وهو التأهل إلى دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024، والمقرر انطلاقها خلال الأيام القليلة القادمة.
ولا تزال الدولة – جنوب السودان – التي حصلت على استقلالها قبل 12 عامًا فقط، تحتفل بمنتخبها الوطني للرجال بعد تأهلها لأول مرة إلى دورة الألعاب الأولمبية.
لقد سجل بالفعل هؤلاء اللاعبين ليس فقط أسماءهم بل اسم الدولة بذاتها في سجل التاريخ الرياضي بهذا الإنجاز.
وتحمل الشعلة الأولمبية في طياتها آمال جميع الأمم. فهي تتيح الفرصة للبلدان في جميع أنحاء العالم للاحتشاد خلف هدف مشترك وأبطال مشتركين. يُتاح للمواطنين الفرصة للشعور بالفخر والوطنية بينما يرفع أفضل ممثلي بلادهم علم شعبهم على المسرح العالمي.
إنجاز رائع وفخر للحكومة والبلاد.. بهذه الكلمات عبر سلفا كير، أول رئيس لجنوب السودان عن فخره واعتزازه بما حققه هؤلاء اللاعبين بعد تأهلهم التاريخي لدورة الألعاب الأولمبية.
وتأهل منتخب جنوب السودان إلى أولمبياد باريس عن قارة إفريقيا لأول مرة في التاريخ، بعد أن سقط منتخبنا الوطني في فخ الخسارة أمام منتخب نيوزيلاندا بنتيجة 86 – 88، ليلجأ الفراعنة إلى الملحق العالمي المكون من 24 منتخب يتأهل منهم 4 منتخبات إلى الأولمبياد.
جوبا تُسطر التاريخ
ويُعد جنوب السودان، الذي يحتل المركز 62 على مستوى العالم، أقل فريق للرجال تصنيفًا يتأهل إلى الألعاب الأولمبية منذ عام 2004 على الأقل، وفقًا للهيئة الإدارية للرياضة.
ومن هنا يُمكنك أن تُدرك حجم الإنجاز الذي حققه هؤلاء اللاعبين، والذين هم بالمناسبة من اللاجئين الذين فروا من عقود من إراقة الدماء إلى العيش في الخارج حيث أستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية أغلب فترات حياتهم، قبل أن يعودوا من جديد ليتحدوا تحت شعار بلدهم الأم.
جوبا – عاصمة جنوب السودان – في تلك الليلة لم تنم، آنذاك ردد كابتن الفريق كواني كواني هتافًا بصرخة عالية: “جوبا.. إلى أين نحن ذاهبون؟”. ليرد المشجعين: “باريس!”
من رحم المعاناة تولد الإنجازات
منذ استقلال جنوب السودان في عام 2011، وتأمل أن تظهر على الساحة الرياضية وإعلاء اسم البلاد في كافة المحافل الرياضية الدولية.
وبالرغم من أنه وبعد عامين من الاستقلال، خاض جنوب السودان حربًا أهلية خلفت ما يقرب من 400 ألف قتيل وأكثر من 4 ملايين نازح، وعلى الرغم أيضًا من أنها لم تتعافى بشكل كامل، وتسير ببطء نحو التعافي في ظل اندلاع أعمال عنف عرقية ذات دوافع سياسية، إلا أن حكومتها سعت لتطوير الجانب الرياضي على كافة المستويات من أجل المشاركة في المحافل الدولية في السنوات المقبلة.
وبالفعل نجحت بعد سنوات من الصراع وأرسلت أول رياضي لها، وهو عداء ماراثون، إلى أولمبياد لندن 2012 كرياضي مستقل يتنافس تحت العلم الأولمبي.
هذا الأمر أسرع من عملية انضمام الدولة إلى اللجنة الأولمبية الدولية، لتصبح بذلك العضو الأولمبي رقم 206 بعد أربع سنوات من حصولها على الاستقلال.
هذه العضوية تُمكن البلاد – التي مزقتها الحرب الأهلية – من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية والتي أقيمت في ريو دي جانيرو بالبرازيل عام 2016.
ولكن كل المشاركات السابقة كانت فردية، إنجازًا يخص شخص بعينه، حيث شارك سانتينو كيني وغور ماريال في سباق 1500 متر رجال وماراثون الرجال عام 2016، بينما شاركت مارغريت حسن في سباق 200 متر سيدات.
ثم في عام 2020 صعد أبراهام جيم ولوسيا موريس إلى المضمار في سباق 1500 متر رجال و200 متر سيدات.
كما مثّلت مجموعة من الرياضيين من جنوب السودان الفريق الأولمبي للاجئين التابع للجنة الأولمبية الدولية في الدورتين الأخيرتين، وكان معظمهم تحت العلم الكيني.
ولكن الآن، من المقرر أن يمثل فريق مكون من 12 لاعبًا بلادهم على أعظم مسرح رياضي، وعلى الرغم من أنهم سيتم دمجهم في فريق واحد، إلا أن هذه المجموعة ستضاعف عدد الرياضيين الذين تم إرسالهم إلى الألعاب تحت راية جنوب السودان بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2016.
ويصف كبير المستشارين الرئاسيين، كول مانيانج جوك، هذا الإنجاز بدموع الفرح خلال حوار لـNBL MEDIA: “الفريق أعاد توحيد البلاد، لقد أعاد الشباب تحرير جنوب السودان مرة أخرى من القبلية والانقسام”.
وأضاف مانيانج: “هذا الإنجاز جعل الرئيس سالفا كير يتعهد ببناء ملعب لكرة السلة في جوبا كهدية للفريق الذي حقق إنجازًا لن تنساه جنوب السودان أبد الضهر”.
دافع الوطنية تغلب على الصعوبات
ويمكنك أن تفهم لماذا يُعد هذا الإنجاز وطنيًا للشعب ككل، فلم يكن هناك الكثير مما يُمكن البلاد من الاحتفال طيلة السنوات الماضية على هذا النطاق منذ الاستقلال، باستثناء الزيارة الوفيرة التي قام بها البابا فرانسيس في وقت سابق من هذا العام.
إذ يُعاني الملايين من سكان جنوب السودان من الآثار القاتلة لتغير المناخ بينما يتلقون القليل من الدعم في واحدة من أفقر دول العالم، كما دمرت الحرب الأهلية البنية التحتية.
تخيل أنه لا يوجد في جنوب السودان ملعب داخلي واحد لكرة السلة! لدرجة أنه خاص إحدى مواجهاته في بلاد كينيا المجاورة لهم، وكانت على أرض خرسانية!
الفريق مليء باللاجئين وأطفال اللاجئين الذين فروا من عقود من إراقة الدماء ويعيشون حاليًا في الخارج.
وقال كواني كواني، قائد منتخب جنوب السودان خلال تصريحات لـ وكالة أسوشيتد برس بعد التأهل للأولمبياد: “لم نعتقد أبدًا أننا سنكون هنا، دافع الوطنية وحده هو من جعلنا هنا، الآن سنظهر للعالم وسيرانا الجميع، رغم أن كل الشواهد والصعوبات كانت تؤكد حتمًا بأننا لا يمكن تحقيق ذلك”.
وواصل حديثه: “ربما لم يكن من الممكن أن يتأهل الفريق إلى الألعاب الأولمبية لو لم يتدخل لوول دينج، لاعب فريق كل النجوم السابق في الدوري الاميركي للمحترفين، وقام شخصياً بتمويل برنامج بلده الأصلي”
من جانبه، صرح رئيس اتحاد جنوب السودان لكرة السلة لول دينغ – النجم السابق في الدوري الأمريكي للمحترفين – : “اللاعبون تصرفوا بدافع الوطنية ولهم هدف واحد وهو وضع جنوب السودان على الخريطة وتغيير الطريقة التي يرى بها العالم البلاد”.
وأضاف: “يمكننا محو السلبية والأشياء التي قيلت عن جنوب السودان، نحن نستخدم الرياضة لتحقيق ذلك، ويسعدني أن أكون جزءًا من القيام بذلك”.
وأتم حديثه: “نحن نقوم بشيء أكبر من كرة السلة، هناك أناس يعيشون الاكتئاب والجوع والمعاناة، تلك اللعبة التي تستغرق ساعتين تمنحهم إحساسًا بالفخر يساعدهم على الصمود”.
الرياضة بدون أموال لا يمكن أن تذهب لأي مكان
يرى وزير الشباب والرياضة بجنوب السودان ألبينو بول ضيو، أن الرياضة بدون أموال لا يمكن أن تذهب إلى أي مكان، مؤكدًا على مواصلة جهوده رفقة الحكومة الحالية لتوفير الموارد المادية التي تؤهل البلاد للتحسن أكثر فأكثر في كافة المجالات وليس فقط في كرة السلة.
وأضاف: “نسعى لبناء مجمع رياضي وملعب كرة سلة واحد على الأقل في كل ولاية من الولايات العشر في البلاد؛ لكن ليس من الواضح كيفية تمويل هذا المشروع الضخم”.
وتبلغ الميزانية التي رصدتها الحكومة لوزارة الشباب والرياضة حوالي 5.3 ملايين دولار، وهو ما يمثّل 1% تقريبا من كلفة المشروع، وفقا لإيكونوميست.
يقول أحد المسؤولين عن الرياضة في لقاء خاص مع NBL MEDIA: “لا تحصل أمتنا عادةً على العديد من الفرص الإيجابية للاحتفال بشيء يوحدنا كشعب. وهذا هو الشيء الذي يجمعنا جميعًا، ويضعنا على المسرح الدولي، وهو شيء يجب على الأمة بأكملها أن تحتفل به”.
هل يكسر منتخب السودان الرقم القياسي لمصر؟
تُعد مصر هي الفريق الوحيد الذي أنهى المراكز العشرة الأولى. أنهى فريق كرة السلة المصري للرجال 3-3 وحصل على المركز التاسع في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1952.
فهل ينجح هذا الجيل التاريخي من جنوب السودان في الوصول لما هو أبعد من ذلك؟