منذ زمن «الديمقراطية لها أنياب»، التي أرساها الرئيس السادات- رحمه الله- إلى عهد «الديمقراطية فى أزهى صورها والإصلاح النابع من الداخل»، الذى يبشر به المسئولون فى الحزب الوطنى وحكومته الآن، ونحن لا ناقة لنا ولا جمل من الديمقراطية سوى أمرين، أولهما مجرد الحديث عنها، وثانيهما ممارسة نوع من حرية الانتقاد عبر هامش محدود تتيحه لنا الحكومة، يختلف سقفه واتجاهاته من وقت لآخر، بحسب المرحلة والظروف وطبيعة الضغوط والتحالفات والمتغيرات الخارجية والداخلية.
ففى إحدى المراحل، كانت الديمقراطية تعني حرية الانتقاد للنظام الناصرى ورموزه، بعدها كانت بشائرها تتمثل فى إطلاق العنان لحرية «الردح» فى مواجهة النظم العربية فى عهد المقاطعة، وفى حقبة أخرى أصبح التدليل عليها، يتم من خلال ما نراه من هجوم على سياسة الانفتاح الاقتصادي، وما آتى به من فاسدين ومفسدين، تلاها موجة الهجوم على شركات توظيف الأموال وما ارتكبته من جرائم فى حق مئات الآلاف من المودعين، وأخيراً كانت الحملة الشرسة على البنوك.
وطول الوقت، كانت الديمقراطية دائماً، هى حرية مهاجمة الآخرين خارج حدود الوطن، سواء كانوا مستعمرين أو أصوليين، أو حتى مناضلين يدافعون عن الحرية والديمقراطية.
وفى جميع الأحوال وفى كل المراحل، يتم استخدام الهامش المتاح لحرية الانتقاد فى اتجاه محدد، للتدليل على ديمقراطية المجتمع بأكمله.
أحد الهوامش الكلاسيكية التي تبلورت عبر السنوات الماضية، تجسد فى إطلاق حرية انتقاد الحكومة- ولا مانع من سبها ولعنها أيضا- وهو أمر محمود بالطبع، شائع الحدوث فى المجتمعات الديمقراطية، إلا أنه من الشائع لديها كذلك، قدرة المواطنين على تغييرها- الحكومة- من خلال صناديق اقتراع، وهو ما نزعم أنه حق غير متعارف عليه لدينا بعد.
والحقيقة أن هذا الهامش قد زادت مساحته كثيراً فى الفترة الأخيرة، حتى بات يرتع فيه ويستخدمه ليس فقط الكتاب والسياسيون المناوؤن فى المطبوعات المعارضة والمستقلة، وإنما أيضاً عدد كبير من الكتاب والمسئولين الرسميين وشبه الرسميين فى الصحف الحكومية وزميلاتها من الصحف المستقلة المحافظة، حتى بدت الحكومة -أو بعبارة أخرى الضرب فى الحكومة-، بمثابة قربان يقدم فى محراب التدليل على الديمقراطية.
وهكذا بات مألوفاً أن نرى مثل هذه المشاهد العبثية التي يخرج فيها البطل المنتقد- لا نعرف لماذا هو بطل من الأساس- بعد محاضرة ألقاها هنا أو مقالة كتبها هناك وسط صيحات المسمعين والقراء «المخدوعين» إعجاباً بشجاعة مزعومة- إذ إن سقف الانتقاد محدد من البداية-، وتصل الكوميديا إلى دروتها حين يحذر بعض الجمهور الساذج البطل «أو البطلة» الزائف إشفاقاً وخوفاً عليه، من أنه قد تجاوز الخطوط الحمراء، فيطرق البطل خجلاً، أو يتجاسر فيجاهر بأنه لا يخشى أحداً، ولا يخاف فى الحق لومة لائم، مع أن أغلب هؤلاء لا يتحركون أو يكتبون أو ينتقدون، إلا وفقاً لحسابات مصالح دقيقة، وفى ظل توازنات ومؤشرات تحدد بوصلة اتجاههم من خلال علاقتهم مع الدولة بأجهزتها المختلفة!، ولا يسيرون فى موجة الهجوم، إلا عن اعتقاد راسخ لديهم، بأنه وسيلة للتلميع والصعود، فى ظل سيادة ما يمكن أن نطلق عليه «فوبيا» الإصلاح والتغيير.
والأدهى من ذلك، أننا أصبحنا لا نعرف ولا ندرى من هو المسئول عن سياسات الحكومة، بل ومن هى الحكومة بالتحديد، فى ظل ما نراه من انتقاد لها ولقراراتها وسياساتها من قبل كتابها التقليديين ومسئؤلى الحزب- حزب الحكومة- بل ومن مسئولين ووزراء فى الحكومة نفسها!
أما الأخطر.. فهو انشغال الجميع- وانبهار البعض- بشراسة الانتقاد، وارتداء الكثيرين لثوب الإصلاح- ونحن فى زمن الإصلاح- دون أن نلتفت إلى عدم جدوى ذلك كله، فى غياب آليات ديمقراطية، تمكن أياً من السائرين فى موكب الانتقاد والإصلاح- مع كل تحفظاتنا على نوايا أغلبهم- من تغيير السياسات القائمة، أو من استبدال هذا الكيان المسمى بالحكومة، والتى صارت تشبه كياناً هلامياً، يصعب الإمساك به من الأساس
حازم شريف
11:40 ص, الأحد, 6 يونيو 04
End of current post