كان قد هم بالمغادرة للمرة الأخيرة، حين عرج علي مكتبي لإلقاء تحية الوداع.
دعوته لتناول القهوة، جلس ممنونا مسترخيا بعدما استبدل القهوة بالمشروب المفضل لأكثر من %90 من صحفيي مصر الآن «شاي خفيف… سكر تقيل».
فيما يشبه الاحتفال.. أشعل سيجارة ولوح بكوب الشاي بحركة دائرية في الهواء قبل أن يسحب رشفته الأولي، فيما شاركته بنصف إيماءة وقورة من فنجان قهوتي الخالي من السكر.
سألني في جو لا يخلو من حميمية: أستاذ حازم… كيف تري مستقبل الصحافة في مصر خلال العامين المقبلين؟
بدا السؤال تليفزيونيا، ذكرني علي الفور بمذيعات القنوات الأرضية، تبدأ الواحدة منهن حلقتها متسلحة بأطنان من مساحيق الماكياج، ومقدمة إنشائية، لا يضاهيها ركاكة، سوي الكتب المدرسية المقررة علي أولادنا في جميع المراحل التعليمية، ولا يتفوق عليها مللا إلا أغلب خطب وتصريحات المسئولين بالحكومة والحزب الوطني. وذلك قبل أن تنقض علي ضيفها في حدة الصقر، وسذاجة طفل بسؤال من عينة: ما رأيك في شباب مصر؟أو ماذا تمثل المرأة في حياتك؟ أو كيف تري مناخ الديمقراطية والحرية الذي نعيش فيه حاليا؟
منذ نحو ثماني سنوات تقدمت باستقالتي، مسلما مستقبلي للمجهول، حالما بصحافة أفضل. تقاربت نصائح أغلب من حولي… صحفيون زملاء، بعض أعضاء مجلس النقابة ومستشارها القانوني، بل حتي أصدقاء من خارج «الوست»: هل جننت إياك أن تقدم استقالتك…. حافظ علي راتبك وافعل ما شئت خارج الصحيفة … الجميع يفعل هذا من أصغر محرر إلي رؤساء التحرير ومجالس الادارة….. اطلب إجازة بدون راتب حتي تستقر الأمور وتتبين حقيقة وضعك.. ولكن إياك والاستقالة!
لم تكن الاستقالة سلوكا رومانسيا، وإنما ردة فعل، تعكس ثقافة المغامرة.
المغامرة نزوة لا يمكنك أن تحيا دونها في مهنة إبداعية كالكتابة. أحيانا يجب أن تتوقف، وتتخذ قرارا صعبا….. علي أن أبدأ من جديد في مكان آخر.
أما اللعب علي كل الحبال، ووضع قدم في صحيفة، وعدة أقدام واصابع في صحيفة أخري ومجلات وفضائيات ومكاتب العلاقات العامة وأروقة الوزارات، فهو سلوك بيروقراطي، يليق بموظف حكومي بدرجة امتياز، لا بصحفي أو كاتب أو فنان يظل طول مشواره المهني، يبحث عن مجد، قد لا يأتيه أبدا! وأغلبنا قد لا يناله، وعادة ما قد يحترق ذاتيا في رحلة السعي إليه!
في أزمة صحيفة الأهرام الأخيرة الجميع علي خطأ وصواب في نفس الوقت. الصحفيون المعتصمون، ينشدون مغامرة سلمية لا تحفها أي مخاطر، مغامرة تؤمنها رواتب حكومية دافئة، وبدلات تكنولوجيا وانتقالات وسفر وأبناط وحوافز وأرباح، ينتظرونها مع نهاية كل شهر في خزنة الصراف.
يظلون ينتظرونها حتي لو لم تطأ أقدام البعض منهم المؤسسة سوي ساعات محدودات، حتي ولو لم يكتبوا حرفا لأشهر وسنوات، حتي ولو برعوا ونجحوا في برامجهم وصحفهم وتحولوا لنجوم وأباطرة تتخاطفهم المطبوعات والقنوات… يظلون ينتظرونها، كعمال المناجم في سيبيريا في عهد الاتحاد السوفييتي البائد، وموظفي المحليات في عصر ثورات يوليو والتصحيح والبنية الأساسية والطرق والكباري والصرف الصحي في مصر المحروسة.
أغلبهم ينتظرها خوفا من الضياع في غياهب السبوبة، أما النجوم منهم فهم يحرصون علي البقاء والانتظار، أملا في ان تنجح شبكة علاقاتهم الأخطبوطية في الدفع بهم إلي الطرف الثاني من المعادلة داخل المؤسسة الحكومية… مقعدي رئيس التحرير ومجلس الادارة!
في هذا الشجار-لا الصراع- يرفع الطرفان شعارات الحفاظ علي صالح المؤسسة، وإعلاء القيم المهنية، ومحاربة الفساد، وتحقيق العدالة…. ولكن أين هو ميثاق الشرف المهني وصالح المؤسسة من عمل الصحفي في أكثر من مؤسسة، بل ولشغله في بعض الأحيان ـ بموافقة ومباركة رؤسائه ـ لمنصب مستشار إعلامي لمسئول أو لوزير!
وأين تكمن العدالة في حصول رئيس التحرير ورئيس مجلس الادارة علي نسبة ثابتة من ايرادات التوزيع والاعلانات ـ وليس من صافي الأرباح حتي ولو هبط التوزيع، وتراجعت الاعلانات وخسرت المؤسسة! وأي فساد هذا الذي يسمح أن يتجاوز دخل رئيس التحرير الشهري مجموع ميزانية عدة مطبوعات بالمؤسسة؟
في هذه المعركة…. سيتراجع كل طرف خوفا علي مكاسبه، احتمالات التواطؤ مؤكدة، في خلاف تبدو نتائجه محسومة سلفا كالخلافات المتكافئة بين بعض قيادات الحزب الوطني التي تنتهي عادة بالاتفاق علي الاقرار بمساحات النفوذ والصلاحيات لكل طرف….. علي أن يحتفظ كل طرف بمزاياه…. ستختفي كل الشعارات المرفوعة، وسيطل برأسه في الخفاء شعار جديد يتم الاتفاق عليه ضمنيا…«حق العمل خارج المؤسسة…مقابل عدم فتح ملفات وتهديد امتيازات رئيسي التحرير ومجلس الادارة».
اصلاح «حقيقي» لا يضارعه سوي أكذوبة اصلاحنا الدستوري والسياسي!
كان كوب الشاي لا يزال في منتصفه، في حين كان فنجاني قد فقد سخونته، مع تداعي أحاديث الذكريات وتبادل التمنيات الطيبة فيما يتعلق بالمستقبل، دون أن أعطي إجابة محددة علي السؤال.
حين تقدمت بالاستقالة… استغرق مني الأمر أكثر من عامين للخروج بالاصدار، اضطرتني خلالها ظروف الكساد في ظل حكومة الدكتور عاطف عبيد، أن أتنازل عن الحد الأدني لرأس المال اللازم لبداية مشروع صحفي مؤسسي، ولكن لا هذه الظروف ولا غيرها،، نجح في زحزحتي عن الاستمرار في وضع شروط الاطار المؤسسي نصب عيني… حتي عدم القدرة علي توفير الرواتب فعليا في أول كل شهر، لم يحملني علي التفكير في الاستعانة بمحرري الاعلانات أو تحريض من آمن بالتجربة علي التحول إلي سمسار يقبض عمولته من مصادره.
لزم علي استقبال طيف متنوع من النظرات في عيون الآخرين، بعضها محمود كالتعاطف والاشفاق وإن صعب علي الكبرياء تحمله… وبعضها خبيث لا يخلو من تشفٍ، ينتظر السقوط … إما بالتحول للنموذج السائد، أو الاعتراف بالفشل والانسحاب إلي غير رجعة.
ولقد صمد من صمد…… وخرج من خرج، بعضهم مأسوف عليه والبعض الآخر أرهقني نفسيا في ذهابه، ما بذلته من جهد حين سمعت الخبر لكتمان صيحة فرح تلقائية كادت أن تفضح مشاعر سيكوباتية طفولية في أعماقي، لايليق بي أن تخرج.
البعض خان الثقة، آخرون خذلوا التوقعات …. لا يهم، المهم أن عدد المؤمنين بالتجربة يزداد كل يوم، خبراتهم تتراكم، وعيهم ينضج، مهاراتهم تصقل، كبرياؤهم المهني في أوجه.
لا ألوم أحدا من المغادرين، فالطوفان كسح في طريقه الكثيرين ممن هم أشد بأسا ويفترض أن يكونوا أكثر حكمة. والمكاسب القصيرة لتعدد الوظائف والسبوبة والاموال الخليجية، تكاد تعمي النظر الاخضر الغض عن الرؤية الاستراتيجية للمستقبل.
قبل ست سنوات لم يكن يصدر في مصر سوي صحيفة اقتصادية واحدة يومية، الآن أصبحت هناك يوميتان، وما يربو علي عشر صحف أسبوعية.
وأدعي أن هذا الازدهار رغم مساوئه، يعود الفضل فيه لمغامرة المال، فقبلها لم يكن إصدار صحيفة اقتصادية ثانية سوي مرادف لكلمة «انتحار»، ولم تكن مصادفة أن تختار أغلب الصحف الأسبوعية التي صدرت في السنوات الأخيرة، يوم الأحد للصدور، كما فعلت «المال» عندما بدأت أسبوعية.
عدد لا بأس به من هذه التجارب، خرج بمنطق المحاكاة، بل إن البعض قام بنقل تبويب «المال»، وآخرون قرروا أصلا بناء ما أطلقوا عليه تجربتهم علي خطف محرري «المال» مع التبويب، ومازالوا حتي الآن مع غيرهم يتربصون.
وصحف أخري قامت علي نموذج المحرر جالب الاعلان، فحكمت علي نفسها من البداية، بمحدودية النمو، وقضت علي مستقبلها المهني قبل أن يبدأ.
وفتحت في نفس الوقت المجال واسعا لخلق سلسلة من الانشطارات والانشقاقات، أبطالها محررو اعلانات متضخمون، يطمعون في لحظة وهم فارقة، في أن ينفردوا بغلة ما يدرونه من إعلانات في صحف جديدة تحمل أسماءهم، يتحولون فيها من مجرد صبي إلي مقاول أنفار، لحفنة جديدة من محرري الإعلانات.
ومع كل ذلك، تظل حدة المنافسة وقودا لا غني عنه للابداع المهني من ناحية، والتطور المؤسسي من ناحية أخري، وهو أمر بالغ الأهمية.
كانت علبتا سجائرنا قد فرغتا بالكامل، وبقي عقبان صغيران يرتعشان بين أصابعنا، تغطي سحابة دخانهما الضبابية شبحي كوب الشاي وفنجان القهوة الخاويين… وذلك حين ألحَّ علي قبل أن يشد رحاله إلي عالمه الجديد: استاذ حازم كيف تري مستقبل الصحافة في مصر خلال العامين المقبلين؟
أجبته مخلصا: انظر… خلال أربع سنوات وليس عامين، ستكون في مصر مؤسستان أو ثلاث علي أقصي تقدير من القطاع الخاص، تقدم رواتب هائلة، لطبقة جديدة من الصحفيين، بعضهم تشكل ويتشكل الآن، والبعض الآخر سينضم إليهم في المستقبل.
عاود السؤال: وماذا عن ؟
فجأة لفَّ الصمت المكان… تبخر الدخان….. خرجت منه ابتسامة صافية، غادر بعدها للمرة الأخيرة، بعدما تمنينا معاودة اللقاء في المستقبل القريب.