فى مثل هذه الأيام من كل عام، وعلى مدى نصف قرن يزيد ثلاث سنين، تتوالى مواسم جلد الذات عن خسارة مصر حرباً لم يخضها جيشها ، حصلت إسرائيل بمقتضاها على نصر (مجانى) لا تستحقه، لم يمض عليه سوى أسابيع معدودة.. إلا وتدخل الأسلحة المشتركة للمنهزم افتراضاً.. معارك نوعية احترافية ضد المنتصر مجازاً، برية (رأس العش)، جوية (قناة السويس)، وبحرية (إغراق المدمرة إيلات) من قبل أن تخوض القوات المسلحة المصرية فى العام التالى حرب استنزاف امتدت نحو ثلاث سنوات حتى وقف إطلاق النيران مع إسرائيل 8 أغسطس 1970..بوساطة أميركية- قبل أن تشن مصر الحرب فى أكتوبر 1973 التى لولاها لما انصاعت إسرائيل للانسحاب من كامل صحراء سيناء فى أبريل 1982، فى إطار من ملحمة مصرية عن دبلوماسية الحرب امتدت لما يزيد على عقد من الزمان، وإذ رغم حسن إدارة مصر لجولاتها العسكرية والسياسية 1979-1967.. فإن مواسم جلد الذات السنوية لم تتوقف، ليس اجتراراً للبكاء المشئوم على لبن مسكوب.. أعيد للتو إلى قواريره، وإلا لما كان للنصر المؤثل أن يكون، إنما المقصود بالعويل غير المبرر.. إدانة معركة أخرى (غير عسكرية)، سياسية اجتماعية، ما زالت إرهاصاتها جارية منذ العام 1952، يفاقمها أن المؤسسات التى أفرزتها التجربة، وهندسة مداميكها ما زالت باقية رغم رحيل بنائيها التاريخيين، يستند إليها خلفاؤهم- بشكل أو آخر، فى تسيير دفة الحكم، ما يعنى استمرار فشل الهجمة الصهيونية – الإمبريالية 1967، وتوابعها، سواء فى حينها أو حتى بعد مرور ما يزيد على 50 عاماً عليها.
ومن مفارقات المتشابهات التاريخية، تواكب الذكرى 53 لحرب يونيو مع الذكرى 75 لانتهاء الحرب العالمية الثانية.. التى يحتفل بها الحلفاء- المنتصر والمهزوم، بسيان، بما فيهم فرنسا التى سقطت فى أقل من بضعة ساعات إلا من بقاء «ديجول» رمزًا لصمودها رغم هزيمة بلاده، وليؤسس من بعد الجمهورية الخامسة التى تحكم إلى اليوم فرنسا، التى تحتفل مع ألمانيا (الخصم العسكرى السابق والحليف الأوروبى حالياً) بتوقيع الأخيرة التى أشعلت الحرب.. على وثيقة هزيمتها 14 مايو 1945، بفارق 22 عاماً على إغلاق مصر مضيق العقبة فيما يشبه إشعال الحرب على إسرائيل قبل الرضوخ بقبول القرار 242 من مجلس الأمن نوفمبر 1967، وقد يرى البعض من المراقبين إلى اليوم، أنه لولا الأقدار التى أنقذت «هتلر» من محاولة اغتياله 1944، كما حالت دون اغتيال «الإخوان» لعبد الناصر فى 1954، 1965، لأمكن لألمانيا توقيع اتفاق سلام أكثر عدلاً وتوازناً مع الحلفاء، ولأمكن القول على القياس نفسه بالنسبة لمصر، باستبعاد إعطاء الولايات المتحدة الضوء الأخضر إلى إسرائيل لاكتساح سيناء فى 1967، لإسقاط عبدالناصر، وفى حين نجح الحلفاء إلى انتحار «هتلر».. وسقوط نظامه فى 1945، فإن الصهيونية الدولية لم تفلح فى إسقاط عبدالناصر ونظامه- ولو بعد حين- إلا ربما من بعد ما تحققت أهداف حرب أكتوبر التى أتاح لها «ناصر» قبل رحيله 1970 كل الطرق مفتوحة إليها حرباً أو سلماً، ومع ذلك فقد سعى خصوم أيديولوجيته، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على أن تبقى الظلال المعتسفة لحرب يونيو 1967، معلقة فى عنقه.. يحتفلون بها (شامتين) كل سنة، حتى ولو كان صداها يصيب كرامة المصريين فى الصميم، كما يثلج صدور أعدائهم، وإلى إبقاء الغصّة فى حلق الأخلاقية الاحترافية للعسكرية المصرية، التى تعود مجددًا- كقوة عسكرية دولية وسياسية- لتخوض أشرس معركة ممتدة للحرب ضد الإرهاب.
إلى ذلك، لا يزال تتوالى الكتب والمقالات عن حرب يونيو المشئومة، جنود إسرائيل فيها هم الأفضل، فيما يحجز المؤلفون دور المهزوم للجنود المصريين، إلا من بعض الأعمال الدرامية التى برزت حديثاً للتحدث عن هذه المآثر طوال نصف القرن الأخير، لقيت تجاوباً شعبياً مستنيراً وموضوعياً، ما يعنى استقامة البوصلة المصرية نحو منطلقاتها الوطنية، وهى سمة الشعوب الناهضة التى لا تخجل من سقطات التاريخ.