بقلم : د. توفيق اكليمندوس *
الدافع الذى حثنى على كتابة تلك السلسلة هو التململ من السياسة الخارجية للدول الغربية٬ والخوف من المبالغة فى الرهان على القوى الكبرى الأخرى٬ والحيرة فيما يتعلق بالمستقبل٬ وأخيرا وليس آخرا فإن مصر دولة قوية جدا وفقيرة جدا، وكل هذه الاعتبارات تعقد الحسابات.
وتململى من السياسات الخارجية للدول الغربية سببه تذبذبها وصعوبة التنبؤ بها وازدياد خضوعها للأهواء والأيديولوجيات. والموضوع لا يتعلق فقط بتداول السلطة الطبيعى فى الدول الديمقراطية. لو كان الأمر بهذه البساطة لاستطعنا تحديد توجهات الأحزاب الرئيسة وبناء توقعات وحسابات عليها. المشكلة هو الدور المتزايد للأيديولوجيات فى رسم السياسات وتعارضها مع مصالح الدول نفسها. أعرف أن الكثيرين سيقولون أن هذا الكلام ساذج لأن دولا عديدة تمتلك حرية حركة كبيرة وأن تأثير الأيديولوجية فى تحديد ما هى المصالح الحقيقية هو واقع لا مفر منه له مميزاته وعيوبه. أى أنهم يقولون أن الزعم بوجود تعارض بين المصلحة والأيديولوجيا فيه قدرا من التسرع والسطحية. والبعض يضيف أن افتراض وجود مصلحة موضوعية تفرض نفسها لا نقاش حولها هو زعم يستند إلى استثناءات فالأصل هو العكس.
أعرف أن لكل دولة مهما قست الجغرافية عليها وقلت الموارد هامشا لتحديد مصالحها يكبر ويصغر٬ وأعرف أن لكل دولة مصالح متناقضة وأن الأيديولوجيات تلعب دورا هاما فى أساليب التفضيل أو التوفيق بينها٬ وأن هذا يزيد من صعوبة توقع القرار٬ ولكننى أزعم أن الأيديولوجيا والعواطف لم تعد تكتفى بهذا الدور٬ وأن الواقع يثبت أن هناك مصالح وتهديدات موضوعية وأن الأيديولوجيات السائدة فى أوساط النخب الغربية أثرت بالسلب على أساليب جمع المعلومات وتقييمها٬ وحتى عندما تتضح الصورة نسبيا لأن فى كل النخب أفراد أكفاء لا ينخدعون بالأوهام وبجعجعة الإعلام فإن الخطاب الحقوقى ومشروع مقرطة العالم يتعارضان فى أحوال لا يجوز التقليل منها والدفاع عن مصالح تلك الدول. ونواجه وضعا عجيبا نرى فيه هجوما شديدا على القائد الغربى الذى يدافع عن مصالح بلده بالتعاون مع دولة يراها الإعلام الغربى ومنظماته الحقوقية غير محترمة لحقوق الإنسان٬ ويضطر القائد إلى الالتزام بموقف دفاعى وإلى تأليف حجج من نوع: الحوار مع النظام الكريه فى الغرف المغلقة والتعامل معه سيحققان نتائج أفضل من التنديد به٬ ثم يحرص هذا القائد على تسريب خبر أنه فعلا تناول قضية حقوق الإنسان فى النقاش٬ وقد يكذبه نظيره٬ الخ. ونقرأ تعليقات صحفية غربية توبخ القائد الغربى وتتهمه بالبحث عن مصالح مادية كأن هذا البحث من الكبائر.
ولكى لا يقال أننى متأثر بأحوال منطقتنا المنكوبة وبانحيازى إلى خيارات مصرية محددة أسوق أمثلة على تأثير الأيديولوجيا لا تتعلق بنا. من الواضح أن مشروع إقامة عملة جديدة هى اليورو مشروع تجاهل الواقع الاقتصادى الأوروبى والاختلاف الواسع بين آليات عمل كل اقتصاد على حدة٬ الألمانى يعتمد على التصدير ومصانعه موجودة فى الخارج وسياسته المالية والضريبية منضبطة ولذلك يحتاج إلى يورو قوي٬ على عكس الاقتصاد الفرنسي٬ وشهادتى الشخصية أن كل الاقتصاديين الفرنسيين الذين قابلتهم فى التسعينيات كانوا يدركون حجم المخاطر… ولكن الإرادة السياسية كانت لها رأى آخر. واليوم من مصلحة فرنسا التحالف مع إيطاليا للضغط على ألمانيا لمراجعة التوجه العام للسياسة النقدية الذى أضر باقتصاديات الدولتين ضررا بالغا٬ ولكن الليبرالى ماكرون لا يحب الشعبويين٬ ويرى من واجبه محاربة الحكومة الإيطالية الحالية ويتخذ موقفا مناوئا لها فى أغلب إن لم يكن كل القضايا.
ونتناول فى المقال التالى مشكلة احتمال انهيار النظم السياسية للدول التى تتعامل معنا وهل علينا إدخال هذا الاحتمال فى حساباتنا ؟!
- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية